عبد القادر الجزائري مع القبائل
يقول المؤلف: إن الأمير عبد القادر الجزائري عندما كان يجوب الجزائر لحشد الجهود لمقاومة الاحتلال استقبلته القبائل بحفاوة في سنة 1837، وإنه خطب فيهم وحذرهم من الطموحات الفرنسية وطلب تأييدهم. وعندما سأل مرافقه وكان أحد رجال القبائل عن الإجراءات التي اتخذوها لصد الهجوم الفرنسي المحتمل، رد عليه بأنه "طالما هم تحت حماية الأولياء.. فلا داعي للخوف"، فانزعج الأمير ورد عليه قائلاً: استيقظوا واتركوا هذه الخرافات جانبًا (ص71). وعين سي أحمد الطيب بن سالم خليفة عنه في سباؤو، وأبدى العمراويون تأييدهم للأمير، وقدموا لمساعدته 150 بغلا محملا بالتين والزيتون والصابون؛ مساهمة منهم في توفير احتياجات المجاهدين. وعمومًا فقد لقي الأمير ترحابًا شعبيًا هائلا، وسرعان ما أعلن الجهاد بمناسبة عيد الأضحى الذي وافق يوم 20-11-1838؛ بعد أن انتهك الفرنسيون معاهدتهم معه، وبرز فرسان عمراوة من أبناء القبائل بقيادة ابن سالم نفسه، وأبلوا في القتال بلاءً حسنًا، وشنوا على قوات الاحتلال هجومًا بدل أمنهم خوفًا.
واستمر سي أحمد الطيب بن سالم خليفة الأمير عبد القادر، يقود المقاومة لمدة 10 سنوات متواصلة، إلى أن تقلصت نشاطاته في بداية سنة 1846؛ بسبب تفوق العدو عددًا وعتادًا، إلى جانب خيانة البعض، واستسلام البعض الآخر، فاستدعى الأمير مرة أخرى إلى منطقة القبائل ليرفع معنويات المجاهدين، ويحثهم على استمرار المقاومة، وكان له ما أراد.
واستمرت المقاومة بالرغم من الخسائر التي لحقت بها على يد المارشال السفاح الفرنسي بيجو، وسرعان ما ظهرت شخصيات جديدة على الساحة لتستأنف الجهاد في منطقة القبائل، وكان منهم شريف يدعى سي محمد الهاشمي الذي حظي بتأييد سي الجودي، خليفة الأمير عبد القادر على مدينة بجاية آنذاك، كما حظي سي الهاشمي بتأييد المجاهدة لالة فاطمة نسومر(ص95)، وظل يقاتل إلى أن استشهد في 3-10-1849 في كمين نصبه السفاح الفرنسي النقيب بيبتر.
لالة فاطمة.. مجاهدة البربر
ويتوقف المؤلف أكثر من مرة عند المجاهدة المسلمة لالة فاطمة نسومر (وهي من نساء البربر)، فيذكر أنها عرفت بالتدين وبحبها الشديد للوطن، وأنها ساندت أخاها الأكبر سي الطاهر عندما تولى قيادة المقاومة وشرع في تجنيد المسلمين (أي الذين وهبوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله)، كما ساندت الشريف بوبغلة في توجيه ضربات موجعة لقوات الاحتلال قبل أن تتمكن تلك القوات من إخضاع منطقة القبائل في سنة 1857. وفي 11 يوليو من تلك السنة اعتقلت فاطمة نسومر هي وعائلتها وتعرضت للاضطهاد والنفي، ولم يراعِ الاحتلال حرمتها.
أما الشريف بوبغلة فقد تصدى لقيادة المقاومة في جبال جرجرة سنة 1851، واستمر جهاده طيلة 4 سنوات متواصلة، كما يسجل المؤلف بطولات عدد آخر من الشرفاء (أي المنتسبين إلى النسب النبوي).
ويستوقفنا ظهور هؤلاء الأشراف في تلك المنطقة؛ حيث إن هناك جدلاً دائرًا منذ عشرات السنين حول الأصول العرقية لأبناء القبائل في الجزائر بصفة خاصة، والأمازيغ في شمال أفريقيا بصفة عامة؛ فالمستشرقون ودوائر الاستعمار الفرنسي القديم ذهبوا إلى ترجيح الأصل الآري لهم، ومن ثم يرون أنهم جزء من الأوربيين.
أما المؤرخون العرب والمسلمون والقوى الوطنية في بلدان المغرب العربي؛ فيؤكدون على أن أرومة البربر شرقية عربية، وأن أصولهم ترجع إلى قبائل حمير بجنوب الجزيرة العربية، وقد جزم ابن خلدون في ديوان العبر بعروبة صنهاجة وكتامة، وهما من أشهر قبائل الأمازيغ، كما تؤكد على ذلك دراسات لغوية قام بها عديد من العلماء والمختصين -من المنتمين إلى البربر في أكثر من بلد مغاربي- من أمثال الأستاذ محمد شفيق عضو الأكاديمية المغربية، والباحثان أحمد بو دهمان ومحمد الفاسي.
ونضيف أن ظهور الأشراف في منطقة القبائل والتفاف أهلها حولهم -كما ذكرنا- قد يزيد من قوة الرأي القائل بعروبة البربر، خاصة أنهم تعلقوا باللغة العربية، وكانوا دومًا أوفياء للثقافة العربية التي عرفت العربي بأنه كل من نطق العربية. وعلى أي حال فكما يقول المؤرخ الجزائري عثمان سعدي -وهو من أصل بربري- فإن البربر تحولوا إلى حماة للإسلام ودعاة له، وصارت منطقة القبائل معقلاً للحركة الوطنية الجزائرية في جبال الأوراس.
وكعادة سلطات الاحتلال الأوروبي لمختلف بلدان العالم الإسلامي لم يراعِ المحتل الفرنسي حرمات المسلمين، ومارس ضدهم كافة أساليب القمع الوحشية، واتبع ما أسماه المؤلف "سياسة الأرض المحروقة" للقضاء على مقاومة الجزائريين في منطقة القبائل وفي جميع أنحاء الجزائر؛ فقطع الأشجار وقتل الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، ودمر البيوت، وأضرم النيران في القرى والعروش (القبائل بالجبال) فيما سمي آنذاك "جولات جمع العلف"، وأجبر الأهالي على تغيير أسمائهم وألقاب عائلاتهم تبشيعًا لهم، وإمعانًا في انتهاك حقوقهم.
الفرنسة والتنصير
بالرغم من وقوع منطقة القبائل الكبرى تحت سيطرة الاحتلال سنة 1857، وبالرغم من شدة الإجراءات القمعية التي اتخذتها سلطات الاحتلال.. فإن روح الجهاد لم تهدأ في أي وقت من الأوقات، واستمرت أعمال المقاومة بصورة متقطعة، وسرعان ما تفجرت مشاعر الغضب لدى عموم القبائل في الانتفاضة التي قادها سي محند أمزيان منصور المقراني، وذلك في مطلع سنة 1871، واستطاع هو وجنوده الأشداء من أبناء القبائل إلحاق خسائر فادحة بجنود الاحتلال؛ لدرجة أن العدو كان يدفن قتلاه سرًا لكي لا تنهار معنوياته من جهة، ولكي لا تتعزز معنويات المجاهدين من جهة أخرى.
وإلى جانب تلك البطولات العسكرية التي لم تنقطع من أبناء القبائل ضد الاحتلال، يروي لنا الأستاذ فرج -مؤلف هذا الكتاب- صفحات رائعة من جهادهم على جبهة أخرى كانت أشد ضراوة من الجبهة العسكرية، ألا وهي جبهة المحافظة على الهوية والعقيدة الدينية في مواجهة محاولات الفرنسة والتنصير.
لقد كان من تداعيات احتلال منطقة القبائل الكبرى سنة 1857 أن شرعت سلطات الاحتلال في تطبيق سياسة الفرنسة من ناحية، وتضاعفت جهود رجال الكنيسة الذين رافقوا جيش الاحتلال من أجل تنصير أبناء القبائل من ناحية أخرى.
ومن التفاصيل التي أوردها المؤلف يتضح أنه بينما كانت سلطات الاحتلال تكثف إنشاء المدارس الفرنسية، وتحارب التعليم العربي، وتغلق مكاتب تحفيظ القرآن، وتسعى لإلغاء التشريع الإسلامي من حياة القبائل، وتفرض القانون الفرنسي بدلاً عنه، فيما عرف بقانون القبائل (أو الظهير البربري).. فإنها سعت لتكريس الانفصال بين ما أسمته قرية "تيزي وزو" الأوربية، وقرية "تيزي وزو" المسلمة؛ فاختصت القرية الأوربية بكل الخدمات والمرافق الحديثة، وطردت من كان فيها من المسلمين أصحاب البلد الأصليين، وفي الوقت نفسه سلبت القرية المسلمة ممتلكاتها، وحرمتها من كافة الخدمات والمرافق التعليمية والصحية، حتى المغاسل التي كانت نساء المسلمين يستعملنها في النظافة استولت عليها وخصصتها للأوروبيات (ص171).
وفي ظل تلك الأجواء انتعشت آمال الكنيسة في تنصير القبائل، وأرسلت أشد القساوسة المتحمسين لديها للقيام بهذه المهمة على فترات متلاحقة، وكان منهم الأب Creusat، والكاردينال Lavigerie الذي استقدم كثيرين ممن سموا "الآباء البيض" و"الأخوات البيض" أو "الراهبات"؛ لتسهيل الوصول إلى الأسر المسلمة. ثم حضر القسيس Emille Rolland البروتستانتي في سنة 1908 إلى تيزي وزو ومعه زوجته، وكان من أكبر المنصرين المتعصبين وأكثرهم جرأة ووقاحة في عدم احترام مشاعر المسلمين.
ولكن ما حدث على أرض الواقع كان مختلفًا؛ فبالنسبة للتنصير يقول المؤلف: إن الفشل الذريع كان من نصيب كل تلك الجهود التي سعت لتنصير أبناء القبائل، هذا بالرغم من المصائب التي حلت بسكان القبائل على يد سلطات الاحتلال كما ذكرنا، وبالرغم من الحيل التي استخدمها أولئك المنصرون من خدمات اجتماعية وعلاجية وإغراءات مالية للفقراء، بالرغم من كل ذلك؛ فإنهم لم يفلحوا في تنصير ولو فرد واحد (ص142، وص190، وص193)، وإضافة إلى ذلك فإن فرع الكشافة الذي أنشأته أسرة القسيس Emille في تيزي وزو ودخله بعض شباب القبائل، تمكن شباب القبائل من جعله نواة لتأسيس "الكشافة الإسلامية الجزائرية" بتيزي وزو ومنطقة القبائل كلها.
أما بالنسبة للفرنسة فيؤكد المؤلف أن مشروع الفرنسة والتمييز بين العرب والأمازيغ على أساس أن الأمازيغ أسمى منهم.. "فقد لاقى معارضة شديدة من السكان المعنيين بالأمر، وخاصة عندما لاحظوا أن فتح مدرسة فرنسية يقابلها في كل مرة غلق زاوية أو مدرسة من مدارس تحفيظ القرآن" (ص188). ومن المفارقات التي يذكرها المؤلف أن دعاة التفرقة بين العرب والأمازيغ على أساس عنصري كانوا يقدمون فكرتهم على أنها عمل حضاري وتقدمي (ص188)، وأنه كان فريق من المستوطنين الفرنسيين يعارضون إنشاء المدارس الفرنسية؛ لا لأنهم ضد سياسة الفرنسة، ولكن لأنهم ضد تعليم أبناء البلاد أصلا.
جمعية العلماء وسط القبائل
مع بداية القرن العشرين بدأت مرحلة جديدة من النضال ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، وكانت نخبة من الشباب المسلم قد تخرجت في المدارس الفرنسية، وظهرت في البداية حركة اندماجية سميت "الشبيبة الجزائرية" سرعان ما انقسمت إلى اتجاهين: أحدهما متمسك بالاندماج الكامل مع فرنسا، أما الثاني فقد كان مؤيداً بالأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، وطالب بحرية الشعب وحقه الكامل في الاستقلال، والتخلص من النظام اللاإنساني الذي فرضته فرنسا على المسلمين.
وقد شهدت تلك المرحلة ظهور الأحزاب الوطنية والجمعيات الإسلامية، وكان المؤلف أحد المناضلين الذين انخرطوا في صفوفها منذ البدايات الأولى. وكان أبناء القبائل من أوائل المشاركين في تلك الأحزاب والجمعيات، وفي مقدمتها جمعية العلماء المسلمين التي أسسها الشيخ عبد الحميد بن باديس، وذلك بمدينة الجزائر العاصمة في مايو سنة 1930، وكان ممن شاركه في تأسيسها من أبناء القبائل الشيخ علي أوليخار، وكان يتردد على تيزي وزو لنشر أفكار العلماء فيها وفي المنطقة كلها؛ وذلك عن طريق خطب ودروس خاصة، وأثمرت جهوده في إعداد العناصر التي قامت فيما بعدُ بنشاطات ثقافية على منهج جمعية العلماء، لم تشهد تيزي وزو مثلها قط.
ويروي المؤلف قصة تأسيس الكشافة الإسلامية بالجزائر؛ فيقول: إنها بدأت بمبادرات محلية ومستقلة في الثلاثينيات إلى أن أنشأ محمد بو راس فيدرالية الكشافة الإسلامية الجزائرية، وكان من رواد جمعية العلماء المسلمين، وحكمت عليه سلطات الاحتلال بالإعدام، ونفذت فيه الحكم رميًا بالرصاص يوم 27 مايو 1941. وكانت مجموعة الهلال بتيزي وزو من بين تلك المجموعات التي أسهمت في توحيد الكشافة الإسلامية الجزائرية على المستوى الوطني.
ويكشف لنا المؤلف عن حالة الهستيريا التي أصابت سلطات الاحتلال وأذنابها، وجعلتها لا تطيق ظهور أي نشاط منظم يقوم به أبناء القبائل، حتى ولو كان نشاطًا رياضيًا أو ترفيهيا. ويمضي المؤلف في وصف أشكال متنوعة من المقاومة التي قام بها أبناء القبائل جنبًا إلى جنب مع بقية الشعب الجزائري، وينهي كتابه بالحديث عن الاستعداد لاندلاع ثورة التحرير في أول نوفمبر 1954، وما سبقها من ظهور القوى الحزبية السياسية والوطنية، مثل حزب نجم شمال أفريقيا، وحزب اتحاد ديمقراطي بيان الجزائر، وحركة انتصار الحريات والديمقراطية.
والحاصل أن منطقة القبائل -وفي القلب منها تيزي زوز- كانت في مقدمة المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي، وانخرط أبناؤها في الأحزاب الوطنية والجمعيات الإسلامية والأنشطة الرياضية والثقافية، وفشلت كافة محاولات الاحتلال من أجل عزلهم عن عموم الجزائريين، وشاركوا معهم في كافة مراحل الكفاح، إلى أن نالت الجزائر حريتها واستقلالها بعد حرب التحرير التي استمرت من سنة 1954 إلى سنة 1962، وبعد أن ضحى الشعب بمليون ونصف مليون شهيد من كل فئاته وجماعاته.
وبالرغم من اندحار الاحتلال الفرنسي ورحيله عن الجزائر منذ 40 عامًا فإن اهتمام النفوذ الفرنسي الاستعماري بإثارة البربر لم يتوقف، بل زاد وأضحى أكثر كثافة وأشد خطرًا، ليس على الوحدة الوطنية للجزائر فحسب، وإنما على