شخصية تاريخية مثيرة للجدل, ليس فقط لأنها جزء من ذاكرة الجزائر, وقطعة من فسيفسائها, ولكن لشهرتها العالمية ككاتبة, وما أحيط حولها من جدل يحاول أن يثير الشكوك ويغرقها في ضبابية من الألغاز!
لقد وجدت في الجزائر جنتها الأرضية, ووطنها المفقود, فاعتنقت دينه الإسلامي الحنيف وساندته في جهاده, وساهمت في ثقافته, وكل هذا بنشاطها وبقلمها الجريء وأسلوبها الرومانسي الدافئ تارة والساخر تارة أخرى, وهذا ما نستشفه من كتاباتها ومراسلاتها الصحفية بجريدتي (الأخبار) و(لاديباش ألجريان), فنرى مثلا كيف تستنكر الاحتلال, الذي يناقض شعارات الثقافة الغربية, التي ينتمي إليها الاحتلال, فتكتب (لماذا أتوا بحضارتهم الفاسدة, وأدخلوها لهذا البلد? أين هي حضارة الذوق والفن, والفكر, التي لدى النخبة الأوربية?!).
وُلدت إيزابيل ويلهيمين ماري إبراهاردت يوم 17 فبراير 1877 بـ (ميران) جنيف (سويسرا) من أم أرستقراطية روسية تدعى (نطالي دوروتي شرلوط إبراهاردت) أرملة الجنرال (بفال كرلوفتش دوموردر) المتوفى في موسكو يوم 23 أبريل 1873 ومن أب هويته مختلفة, والتي لا أحد يقدر أن ينكرها, ففي رسالة إلى صديقها التونسي (علي عبدالوهاب) المؤرخة يوم 1 يناير 1898 أي بعد بضعة أسابيع من وفاة الأم (إيزابيل) ذكرت أن أمها صرحت لها وهي على سرير الموت بأنها ابنة طبيب مسلم, ولهذا فإننا لا نشك في تصريح امرأة على فراش الموت. وفي سن 18 سنة, وفي جنيف كان لها ارتباطات مع أوساط المهاجرين, فكانت تستقبل المطرودين والثوريين الهاربين من سيبيريا, والشباب الأتراك المعارضين للحكم الجبروتي للسلطان عبدالحميد. وكذلك المربي والأب الروحي لإيزابيل الروسي ألكسندر تروفمسكي الذي كان راهبًا في الكنيسة الأرثوذكسية والذي كان له دور فعال في روسيا كمعارض.
إيزابيل إبراهاردت ترعرعت في هذا السياق, وتأثرت به, ولكن صقلت فكرها من خلال رحلتها الثرية, واحتكاكها بالثقافة الإسلامية والعربية, اتصلت بالمواطن المصري المعروف (أبو نظارة) جيمس سنوى (المتعدد اللغات), مدير جريدة مؤيدة للشرق في باريس, أصبح صديقًا وفيًا لإيزابيل, ونصحها بالمساهمة لمعرفة الحياة والعادات والأخلاق الخاصة بالمسلمين في الجنوب الجزائري, وكان من المستحيل عند اتصالها بالشيخ (أبو نظارة), وهو صديق جمال الدين الأفغاني (1838-1897) أحد رواد النهضة الإسلامية والدعوة إلى إصلاح أحوال المسلمين, وتحرير شعوبهم من ربق الاحتلال والاستبداد, كان من المستحيل ألا يتناول هذا الاتصال, الحديث عن الإسلام وحركة النهضة والاحتلال الغربي لشمال إفريقيا....إلخ.
وهذا الاحتكاك بالمسلمين والثقافة الإسلامية أعطى لإيزابيل نظرة موضوعية, فكانت من القلائل, إن لم أقل الوحيدة في بداية هذا القرن التي حاولت وعملت على إظهار إنسانية المسلمين, وأخلاقهم كالأمانة وحسن الضيافة والشجاعة.
وشاركت في الواقع الجماعي للمسلمين, بل وبقناعة راسخة بشرت بإخفاق الاحتلال, في الوقت الذي كان فيه مفكرون وصحفيون كصاحب الأيديولوجية الاستعمارية العنصري والأكاديمي (لويس برطون) وتلامذته من أمثاله يسيرون في الاتجاه المعاكس لفرض القيم اللاتينية والمسيحية, وضرب القيم العربية والأمازيغية في الشمال الإفريقي التي عملت إيزابيل على استمرارها.
مدينة الوادي
وصلت إلى مدينة الوادي لأول مرة يوم: 4 أغسطس 1899 بتكليف بمهمة من طرف (المركيز دوموراس - رطزي) للتحقيق في قتل زوجها في سنة 1895 على الحدود الجزائرية - التونسية - الليبية.
وبعد المضايقات التي حاصرتها من طرف الإدارة العسكرية التي كانت تصفها بالعين الشريرة, وعلقت عليها قائلة (إن هذه المرأة الروسية بالاسم الألماني وبالزي الرجالي (زي الفرسان) والتي تعاشر القبائل, وترسم وتكتب لاشك أنها ميتودية أو جاسوسة)!
فغادرت إيزابيل إبراهاردت الوادي بعد خمسة عشر يومًا من قدومها, ثم رجعت إليه يوم 2 أغسطس 1900 باسم مستعار هو (محمود السعدي) برغبة الإقامة الدائمة, لانبهارها بطبيعة المنطقة وجمال عمرانها, وحسن أخلاق أهلها, وأقامت بمسكن شعبي وكتبت تقول: (إنني بعيدة عن العالم, والحضارة! ومهازلها المنافقة, إنني وحدي في دار الإسلام في الصحراء حرة, وفي أحوال صحية جيدة...الوادي, البلد الذي لا تعد قبابه, هي البلدة الوحيدة التي أقبل العيش فيها للأبد, دائمًا. أريد شراء أرض صالحة للزراعة, وأجعل فيها جنانا وبئرًا ونخلاً), ثم بعد هذا اشترت إيزابيل (حصانًا) وأطلقت عليه اسم (سوف) وبدأت في رحلاتها الطويلة في المنطقة, وقد اعتنقت الطريقة القادرية, وذلك عن طريق السي الطبيب و(سي محمد الحسين) ورجال دين آخرين مشهورين في المنطقة كأولياء صالحين مثل (سي الهاشمي) و(سي محمد الليمام), وتعرفت فيما بعد على الرقيب (السباحي سليمان اهني) والذي أصبح رفيقها في الحياة, حيث تزوجا طبقًا للشريعة الإسلامية, في الزاوية القادرية بالوادي, وتم العقد لإيزابيل باسم عربي هو (مريم) وهو الاسم الذي كانت توقع به بعض رسائلها, وكتبت عن زوجها سليمان (الله قد أشفق علي, لأنه استجاب لدعائي, وأعطاني الرفيق الأمثل الذي كنت دائمًا أرغب فيه, والذي دونه كانت حياتي ستكون مفككة وحزينة...).
وفي 29 يناير 1901 تعرضت لحادث أليم, وعنيف في منطقة, (البهيمة) قرب الوادي, من طرف شاب يدعى (عبدالله بن محمد) من الطريقة التيجانة, الذي وجه لها ضربة سيف أصابتها في الذراع, إصابة خطيرة, بدعوى إهانتها للإسلام, عند تشبهها بالرجال, وفي تقمصها لزي الفرسان العرب, وعدم احترامها للشريعة التي تحرّم ذلك, وهذا دون النظر إلى دوافعها في ذلك وأحوال البلد الغارقة في الخوف والرعب, هذه الضربة أقعدتها في مستشفى الوادي أربعين يومًا, ومع ذلك فأثناء المحاكمة أشفقت على الشاب عبدالله لأنها علمت أن مدبري الجريمة, هم من عملاء الإدارة (بيرو عراب), ودافعت عنه أمام محكمة قسنطينة في 18 يونيو 1901, ومع كل ذلك, فقد حكمت المحكمة على عبدالله بالأشغال الشاقة, وعلى إيزابيل بالنفي كشخص أجنبي, وكان حكمًا قاسيًا وعنصريًا لكليهما من قبل القضاء الفرنسي العسكري, وتأسفت إيزابيل عن قسوة الحكم علانية, وكتبت خواطرها نحو الرجل (إنني بحثت في عمق قلبي عن الحقد نحو هذا الرجل, فلم أجده ولا الكره كذلك), وفي رسالة بتاريخ 7 يونيو 1901 إلى جريدة (لاديباش ألجريان) قالت فيها: (لا يا سيدي المدير, إنني لست سياسية ولا عميلة لأي حزب ما, لأنني لا أراهم إلا مغرورين في نضالهم, إنني أريد العيش بعيدًا عن العالم المتحضر!! أريد حياة حرة وبدوية وهذا حلمي, لأجل أن أنقل كل ما أراه, وأنقل قشعريرة الحزن والسحر الذي أحسّ به أمام العظائم المحزنة للصحراء, هذا كل ما في الأمر).
وأثناء إقامتها في الوادي, التي دامت سبعة أشهر, قامت بأعال خيرية وإنسانية, حيث كتبت في الرسالة ذاتها: (...بعد حادث الاعتداء من قبل المسمى عبدالله بن محمد, لقد قلت في رسالتي الأولى إن أهل (سوف), ومريدي الطريقة القادرية, وكذلك الطرق التيجانية قد أظهروا بالغ حزنهم العميق, وكامل تأثرهم بعد ما علموا بالحادث المؤلم الذي تعرضت له خلال محاولة الاغتيال النكراء, لذا فأنا مدينة لهؤلاء من أهل وادي سوف الطيبين, وما يتصفون به من حنان ومودة وإخاء غمروني به خلال استطاعتي في معالجة السكان, بما لي من معرفة في الطب, من أمراض العيون المختلفة, كالرمد, وأمراض أخرى منتشرة في الناحية, لقد وهبت نفسي لعمل الخير, وخير الإنسانية في كل مكان أوجد فيه...).