محاكمة تاريخية في ذكرى هزيمة 1967!
تمر بأمتنا ذكرى أخطر هزيمة في تاريخها، هزيمة عام 1967 التي احتلت فيها إسرائيل القدس والضفة الغربية وغزة والجولان وسيناء، وخرجت منها إسرائيل كقوة متفوقة على كل دول المنطقة.
كان مشهد جيوش العرب المهزومة يثير السخرية، وكان أخطر ما ركزت عليه وسائل الإعلام الغربية هو ذلك المشهد لتشوه صورة العرب، وتشكل لهم صورة نمطية سلبية، وكانت أخطر السمات التي بنيت عليها تلك الصورة هي أن العربي صديق لا نفع له وعدو لا خطر منه.. وأن العرب لا يحسنون الدفاع عن أوطانهم، ولا يجيدون فنون القتال، وأن جيوشهم فرت أمام الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر.
وسائل الإعلام الغربية بالغت في الترويج لتلك السمات لتزيد الإعجاب باليهود الذين شكلت لهم صورة إيجابية تقوم على البطولة والإبداع والقوة والقدرة على القتال.
وفي الوقت نفسه ركزت على ذلك المشهد لكي تقهر العرب نفسياً وتذلهم، وتضيف إلى هزيمتهم العسكرية المادية هزيمة نفسية مازال العرب يعانون من آثارها المدمرة حتى الآن.
لم تكن حرباً
وفي الذكرى الأربعين لهذه الهزيمة لابد أن ندرسها بعمق، وأن نحاكم كل المسؤولين عنها، وأن نكشف لأمتنا الحقائق، فالهزيمة يمكن أن تتحول إلى نصر يوم أن نتعلم منها الدروس، ونعيد تعبئة قوانا لبناء استراتيجية النصر.
الذي لا يعرف لماذا انهزم لا يمكن أن يحقق نصراً، ومشكلة أمتنا أنها لم تدرس تلك الهزيمة بعد، ولا عرفت أسبابها، ومن أهم أسباب هزيمة 1967، اننا لم نتعلم دروس العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وكان من أهم تلك الدروس ان اسرائيل قامت بتدمير الطائرات المصرية على الأرض، وكان يجب ان نتعلم، فلا نمكن اسرائيل من أن تكرر التجربة، فلا يلدغ مؤمن من جحر مرتين، ويجب أن نتعلم حتى لا تلدغنا اسرائيل مرة ثالثة.
أما الدرس الثاني الذي لم نتعلمه من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 فهو أن المقاومة الشعبية في شوارع مدن القناة هي التي أرغمت بريطانيا وفرنسا واسرائيل على الجلاء، وكان يمكن ان نعبئ الشعب للمقاومة، فالشعب الذي يعرف جغرافيا بلاده ودروس تاريخها لا يمكن ان ينهزم، حتى وان احتل العدو الأرض، وهو ما استوعبته المقاومة العراقية وطبقته، وهي توشك الآن أن تحقق نصرا يفوق قدرة كل المحللين على تخيله.
والعرب لم يخوضوا حربا ضد اسرائيل كما صورت وسائل الإعلام الغربية، ولم تكن هناك نية للحرب أو تفكير فيها، وكل ما في الأمر ان الزعيم أراد أن يصور نفسه بطلا، وان يستغل أحلام العرب في تحرير فلسطين لصالح نظامه.
الذي يريد أن يدخل حربا يعد لها عدتها، ويعبئ لها جيشه وشعبه، لكن ذلك لم يحدث.
لم يكن عبدالناصر يفكر في أن يدخل الحرب ولم يستعد لها، وهناك عدد من القادة العسكريين كانوا مشغولين بخلافاتهم وأحلامهم في مواقع قيادية مدنية.
الجيش نفسه كان قد شكلت وظيفته لتكون حماية أمن النظام والزعيم، بدلا من ان تكون وظيفته حماية أمن الوطن.
ومع ذلك فإن الجيش المصري كان يمكن ان يقاتل ببطولة، وأن يحمي الأرض لو أتيحت له فرصة القتال، ولكن الذي حدث هو ان القيادة لم تترك لهذا الجيش الفرصة ليقاتل، فأصدرت الأوامر لهذا الجيش بالانسحاب من سيناء دون خطة للانسحاب ودون تغطية جوية فتعرض الجيش خلال انسحابه لمذبحة مروعة، هذا الجيش الذي انهزم هو نفسه الذي حقق معجزة عسكرية بكل المقاييس عام 1973، وقاتل بكفاءة عالية تستحق الفخر بها، وهذا يعني ان هذا الجيش لم تتح له فرصة للقتال عام 1967.
وعلى ذلك فإسرائيل شنت عدوانا عسكريا ظالما على العرب، ولم تكن هناك حرب.. الجيوش العربية لم تدخل معركة مع اسرائيل، ولم تكن القيادات العربية وعلى رأسها الزعيم عبدالناصر تخطط لحرب أو تنوي الدخول في معركة مع اسرائيل، ولم تكن تلك القيادة العربية مستعدة لدخول هذه الحرب، وكل ما في الأمر انها اطلقت بعض التصريحات لجذب انتباه العرب، وتحويل انتباههم عن انتهاكات حقوق الإنسان وعن انتشار المظالم والفساد.
وبصراحة ليست هيكلية فإن الزعيم أراد أن يلمع نفسه إعلاميا، وأن يزيد شعبيته المصنوعة، وأن يحرج بعض قيادات الجيش، ويوجد المبررات للمزيد من قهر الشعب.
لكن إسرائيل استغلت الفرصة لتنفيذ خططها العدوانية التي كانت نتيجة تنسيق واتفاق ومؤامرة مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية.
الرصاصة في جيب الزعيم
العرب بكل تأكيد لم يشنوا على إسرائيل حربا عام 1967، ولم تكن لديهم نية للحرب أو حتى مجرد تفكير في احتمال حدوثها، ولم يكونوا مستعدين لهذه الحرب. وكل ما حدث هو أن إسرائيل تعرف أن العرب غير مستعدين للحرب.
وصحيح أن الحرب أولها كلام، ولكن ليس ككلام زعماء العرب في ذلك الوقت، فإسرائيل تعرف تماما أن الزعيم لا يفكر في الحرب، وليست لديه نية لدخول معركة، وأنا أتحدى أن يثبت أحد عكس ما أقول.
وعندما شنت إسرائيل عدوانها المفاجئ ودمرت الطائرات المصرية على الأرض أصدر الزعيم قراره بالانسحاب دون أن يترك للقيادات العسكرية فرصة لإعداد خطة للانسحاب. الجيش المصري انسحب من أرض صحراوية مكشوفة بدون وسائل نقل أو تغطية جوية، أو خرائط، وكان من الطبيعي أن يضل آلاف الجنود طريقهم، ويصبحوا صيدا سهلا للطائرات الإسرائيلية التي كانت تطاردهم، ويتسلى الطيارون الإسرائيليون باصطيادهم في مذبحة مروعة.
هذا هو المشهد المثير للسخرية الذي دأبت وسائل الإعلام الغربية على عرضه إرضاء لرغبة متوحشة في الانتقام من العرب!!
والجيش المصري لم تسمح له قيادته الملهمة بأن يحارب، فقرار الانسحاب المفاجئ أربك القوات وقياداتها.
ماذا لو حارب الجيش المصري؟
هل كان يمكن أن يحارب الجيش المصري بعد تدمير طائراته، وبدون غطاء جوي؟ لو درسنا الواقع لأدركنا أن قرار الانسحاب كان أسوأ قرار يمكن اتخاذه في هذه الحالة، وهو قرار يكشف عن جهل عسكري وحضاري وجغرافي. الانسحاب في تلك الحالة كان يعني مذبحة مروعة، وكان يعني أن يموت الجنود بقنابل الطائرات الإسرائيلية.. وبالتالي لم يكن أمام الجيش المصري سوى أن يحارب، وفي هذه الحالة فإن خسائره كان يمكن أن تكون أقل بكثير من خسائره نتيجة الانسحاب.
يضاف إلى ذلك أن الجيش المصري كان يمكن أن يعطل تقدم القوات الإسرائيلية، وكان يمكن أن يشكل المقاومة الشعبية ويلتحم معها، وفي هذه الحالة فإن الجيش الإسرائيلي لم يكن يجرؤ على التقدم. لذلك كان القرار الوحيد الصحيح هو أن يحارب الجيش المصري، وأن تستمر المعركة لفترة طويلة حتى يمكن تعويض الغطاء الجوي من دول عربية أخرى أو بصفقات سلاح.
والجيش الإسرائيلي لم يكن يجرؤ على أن يتقدم مهما كان ضعف تسليح الجيش المصري، وكل ما في الأمر أنه وجد أمامه طريقا مفتوحا، ولم يجد مقاومة فكان من الطبيعي أن يحقق نصرا رخيصا، ووجد أمامه آلاف الجنود المنسحبين بدون خطة فقتلهم، أو أسرهم ثم قام بقتلهم.
وهذا يعني أن الجيش الإسرائيلي الذي صورته وسائل الإعلام الغربية بسمات القوة والبطولة وأنه انتصر على جيوش الدول العربية مجتمعة، لم يدخل حربا لينتصر فيها، وهذا ليس نصرا، كما أنه ليس في قتل الأسرى بطولة، إنها جريمة يجب أن تشعر الإنسانية كلها بالعار من الاسرائيليين الذين ارتكبوا تلك الجريمة.
لقد شاهدنا الجنود الاسرائيليين على شاشات التليفزيون يفرون أمام الأطفال الذين كانوا يرمونهم بالحجارة، وهم أحرص الناس على حياة.
ولقد أثبت الاطفال الفلسطينيون أن الجندي الاسرائيلي ضعيف وجبان، ولا يستطيع أن يقاتل في معركة حقيقية، ولذلك فإن ما حدث عام 1967 هو أن هؤلاء الجنود ارتكبوا جريمة قتلوا فيها عشرات الآلاف من الجنود الذين امرتهم قيادتهم بالانسحاب، اي انهم كانوا يطاردون جيشا هزمته قيادته، ولم يكونوا يحاربون جيشا كان يمكن ان يعلمهم الأدب لو ان قيادته اتاحت له الفرصة للقتال.
أكاذيب اسرائيلية
هذا يعني أن كل ما كانت تبثه وسائل الإعلام الغربية عن المشهد الدامي كان مجرد اكاذيب رخيصة، وأن الغرب كذب حتى صدق نفسه، وصدق الدعاية الاسرائيلية.
فالحرب كانت مجرد عدوان اسرائيلي ظالم وغير مشروع ضد جيوش لم يكن لديها استعداد للقتال وضد زعيم لم تكن لديه نية للحرب، والرجل قد قال كلمتين بهدف الحصول على تصفيق العرب، ولكي يشغل الناس عن القضايا الداخلية، وعن انتهاكات حقوق الإنسان التي يقوم بها، واسرائيل تعرف ذلك جيداً، كما تعرف كل الدول الغربية هذه الحقيقة بوضوح.
كما أن القيادة الاسرائيلية خدعت الملك حسين وأرسلت له رسالة تؤكد له فيها إنها لن تهاجم الجيش الاردني وبالتالي لم يكن هذا الجيش لديه استعداد للقتال، او مجرد تفكير في احتمال حدوث الحرب.
وعلى الجبهة السورية لم تكن هناك أية مؤشرات للحرب، أو استعداد لها، والقيادات السورية لم تقل حتى مجرد كلام مثل كلام الزعيم المصري، وكل ما في الأمر ان الجيش الاسرائيلي وجد الطريق مفتوحا فاحتل الجولان.
لذلك فالجيش الاسرائيلي لم يحقق نصرا، فهو لم يحارب ولم يجد من يحاربه وقد ارتكب جرائم ضد الإنسانية بقتل جنود منسحبين والجيوش العربية لم يهزمها الجيش الاسرائيلي، ولكن هزمتها قياداتها التي أصدرت لها أوامر الانسحاب.
والدعاية الاسرائيلية صنعت صورة زائفة للجيش الاسرائيلي، فالجنود الاسرائيليون كانوا مجرد سفاحين وقتلة ومجرمين ولصوص، ولا يعرفون اخلاق الحرب، ولا يلتزمون بأعرافها وتقاليدها ولقد ارتكبوا مذبحة لا تليق بشرف جندي محارب لقد آن لنا أن نحطم الكثير من الأصنام التي صنعتها الدعاية الغربية وصدقناها، وان نعيد تشكيل الصور على حقيقتها، فالجندي الاسرائيلي لم يكن يوما بطلا ومحاربا، ولكنه كان مجرما خسيساً جباناً قاتلاً سفاكاً للدماء.
أما الجندي العربي فلم يكن جنديا سيئاً لا يستطيع ان يحارب أو أن يحمي الوطن ولكن قيادته لم تمكنه من ان يقاتل وأصدرت له الأوامر بالإنسحاب، فتعرض لمذبحة ومأساة، وكارثة.
إن القراءة الصحيحة لهزيمة 1967 سوف تمكننا من أن نستعيد ثقتنا في أنفسنا، وفي قدراتنا على تحقيق النصر، كما أن تلك القراءة سوف تمكننا من ادارة معارك المستقبل بشكل افضل ومن المؤكد ان هناك معارك اخرى قادمة.
ولكن هل تستطيع ان تفعلها اسرائيل مرة أخرى.. انها يمكن ان تستخدم الصواريخ والطائرات والأسلحة المتقدمة التي توفرها لها أمريكا لتدمر المدن العربية، ولترتكب مذابح مروعة.. لكنها لن تجرؤ مرة أخرى على احتلال سيناء، او نشر قواتها على مساحات واسعة والا فإنه يمكن أن تتكرر التجربة العراقية ويتم اصطياد الجنود الاسرائيليين، كما فعلوا من قبل مع الجنود المصريين.. تجربة المقاومة العراقية ستغير موازين القوى ومنطق التفكير في العالم كله، لكن يجب أن نحسن قراءة التاريخ والواقع