كن صقراً
صناعة التأثير وهندسة الحياة تبدأ ابتداءً من أعماق الذات، إذ من لم يكن صقراً له همة عالية وطموح سامق فلن يستطيع أن يسلك سبيل التأثير، وإنْ سلك فسرعان ما يتوقف، ذلك أن هذا الطريق ليس طريقاً سهلاً معبَّداً مفروشاً بالورود والزهور والرياحين وإنما هو طريق جاد شاق يحتاج إلى رجال كاملي الرجولة وليس إلى أنصاف الرجال.
والهمة هي استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وكلما كانت نفس الإنسان عزيزة عليه كريمة لديه مقدَّرة عنده كلما ارتفع بها عن كل ما يحط من قدرها، فهي عنده كالطائر الذي حلق في السماء، وارتفع عن الدنايا والآفات، ولسان حاله يقول:
له همم لا منتهى لكبارها وهمته الصغرى أجل من الدهر
والناس متفاوتون في الهمم، ولذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: " ولله الهمم ما أعجب شأنها وأشد تفاوتها، فهمة متعلقة بالعرش، وهمة حائمة حول الأنتان والحش".
كن كالصقور على الذرا تصغي لوسـوسة القمر
لا كالغــراب يُطارد الجيف الحقيرة في الحفر
ويمكن تصنيف الناس فيما يتعلق بالأهداف وبالهمم الموصلة إلى هذه الأهداف إلى أربعة أصناف رئيسة وهي:
*صنف له أهداف سامية ومطالب عالية، وليس له همة توصله إليها، فهذا صنف متمنٍّ مغرور، نقول له ما قاله المتنبي:
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
*وصنف له أهداف متواضعة ومطالب هابطة، وله همة عالية توصله إليها، فهؤلاء أضاعوا أنفسهم في سفاسف الأمور ودناياها، فلا خير فيهم.
*وصنف له أهداف متواضعة ومطالب هابطة، وليس له همة توصله إليها، فهو معدود من سقط المتاع، وموته وحياته سواء، لا يفتقد إذا غاب، ولا يسأل إذا حضر.
إذا أنت غمَّت عليك السماء وضلَّت حواسك عن صبحها
فعش دودة في ظلام القـبور تغوص وتسـبح في قيحـها
*وصنف له أهداف سامية ومطالب عالية، وله كذلك همة عالية توصله إليها، فهؤلاء هم صناع التأثير ومهندسوا الحياة وهم الأرقام الصعبة، فلله درهم.
لقد أثنى القرآن الكريم على الصنف الرابع وأبان فضلهم على غيرهم، فقال تعالى: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجةً وكلاًّ وعد الله الحسنى وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً ".
ويقول تعالى: " وكأيِّن من نبيٍّ قاتل معه ربِّيُّون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا واللهُ يُحبُّ الصابرين".
وهذا رسولنا الكريم يضرب أمثلة راقية سامقة في علو همته وسمو نفسه فضلاً عن علو أهدافه وسمو مطالبه، فلقد كان يسأل الله تعالى الوسيلة، وهي أعلى منـزلة في الجنة، كما أنه علمنا أن تكون هممنا بأعالي الجنان.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أم حارثة، إنها لجنان، وإن حارثة في الفردوس الأعلى، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس". ( مسند أحمد)
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: " سبحان ربي العظيم"، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: " سمع الله لمن حمده"، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: " سبحان ربي الأعلى "، فكان سجوده قريباً من قيامه ". ( رواه مسلم)
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطال حتى هممت بأمر سوء، قيل: وما هممت به ؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه ". (رواه مسلم)
وانظر كذلك إلى همة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد ومقارعة الكافرين، حيث أنه ما إنْ خرج من غزوة الأحزاب ( بعد التعب والبرد الشديد والحصار الكبير ) حتى شنّ حرباً ضروساً على قيادة النفاق والخيانة في بني قريظة، إذْ لما ذهب الصحابة رضي الله عنهم ليستريحوا بعد محنتهم ناداهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة "، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وأعطى الراية علي بن أبي طالب.وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع بالمسلمين الصحراء في حر الصيف إلى تبوك للقاء الروم وتحطيم كبريائهم، وهو يدرك أنه ذاهب لمواجهة أعظم امبراطورية في ذلك الزمان.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يقولون: " كنا إذا حمي الوطيس نحتمي برسول الله صلى الله عليه وسلم".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو كان الإيمان عند الثُريَّا لتناوله رجال من فارس ". (رواه البخاري ومسلم والترمذي)
وفي لفظ مسلم: " لو كان الإيمان عند الثُريَّا لذهب به رجل من أبناء فارس حتى يتناوله ".
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس شيء خيراً من ألف مثله إلا الإنسان ". (رواه الطبراني ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع )
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لكل قرن سابق ". (رواه أبو نعيم في الحلية عن أنس وصححه الألباني في الأحاديث الصحيحة )
ترى من منا السابق ومن منا المتخلف ؟ ومن منا المجاهد ومن منا القاعد ؟ ومن هم الصقور الشوامخ ومن هم الغربان التي لا تقع إلا على الجيف الحقيرة... جعلنا الله جميعاً من الصنف الأول.
ضرب لنا التاريخ، لا سيما تاريخنا الإسلامي، أمثلة حية في سمو المطالب والأهداف وفي علو الهمم والاهتمامات، حيث أن أسلافنا صنعوا التأثير ووجهوا، بل قادوا، حركة الحياة، ولازال نفعهم وأثرهم متصلاً إلى يومنا هذا، ينهل منه قادة التأثير ومهندسوا الحياة، والأمثلة في ذلك كثيرة جداً.
يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل: هلم فلنتعلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم كثير، فقال: العجب والله لك يا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من ترى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فركبت ذلك، وأقبلت على المسألة وتتبع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كنت لآتي الرجل في الحديث بلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجده قائلاً، فأتوسد ردائي على باب داره تسفي الرياح على وجهي حتى يخرج إليَّ، فإذا رآني قال: يا ابن عم رسول الله ، ما لك ؟
قلت: حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحببت أن أسمعه منك، فيقول: هلا أرسلت إليّ فآتيك؟ فأقول: أنا كنت أحق أن آتيك، وكان ذلك الرجل يراني، فذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد احتاج الناس إليّ، فيقول ( أي الرجل): أنت أعلم مني.
لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
وهذا نور الدين محمود زنكي رحمه الله صنع منبر المسجد الأقصى وذلك قبل وضعه فيه بعشرين عاماً، حيث كان له مطلب سام وهمة عالية تمثلت في تحرير المسجد الأقصى من قبضة النصارى، رغم أن الأمة الإسلامية كانت مفككة آنذاك والخلافات شديدة بين قادة الدولة الإسلامية ومع ذلك خطى الخطوة الأولى في إرجاع المسجد الأقصى، وأتم المسير بعد ذلك تلميذه صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وحمل المنبر ووضعه في المسجد الأقصى.
ولما فر عبد الرحمن الداخل – صقر قريش – من العباسيين وتوجه تلقاء الأندلس أهديت إليه جارية جميلة، فنظر إليها وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن اشتغلت بها عما أطلبه ظلمت همتي، ولا حاجة لي بها الآن، وردها على صاحبها:
ومن تكن العلياء همة نفسه فكل الذي يلقاه فيها محبب.
ويقول عيسى بن موسى رحمه الله: " ككثت ثلاثنين سنة أشتهي أن أشارك العامة في أكل هريسة السوق فلا أقدر على ذلك لأجل البكور إلى سماع الحديث.
تلذ له المروءة وهي تؤذي ومن يعشق يلذ له الغرام
وجلس الإمام الطبري رحمه الله ذات يوم إلى تلاميذه فقال لهم: هل تنهضون في كتابة التفسير؟ قالوا: بكم يكون ذلك ؟ فقال: بثلاثين ألف ورقة، قالوا: تفني أعمارنا أن نتم ذلك، ثم توصل معهم إلى ثلاثة آلاف ورقة، فكتبوا التفسير، وبعد ذلك جاء إليهم مرة أخرى فقال لهم: هل تنهضون في كتابة التاريخ منذ أن خلق الله آدم إلى يومنا هذا ؟ قالوا: بكم يكون ذلك ؟ فقال بثلاثين ألف ورقة، قالوا: تفني أعمارنا قبل أن نتم ذلك، فقال: ماتت الهمم، ثم كتب الكتاب وحده رحمه الله.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: " قال لي يوماً شيخ الإسلام ( أي ابن تيمية ) قدس روحه في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة، فالعارف يترك كثيراً من المباح برزخاً بين الحلال والحرام.
وكان الإمام علي بن عقيل البغدادي رحمه الله ذا همة عالية حتى أنه ألف عدداً كبيراً من المصنفات، من بينها كتاب الفنون والذي يقع في أربعمائة جزء، وقد ذكر الإمام الذهبي أنه لم يؤلف مثل هذا الكتاب من قبل، وكان ابن عقيل قد جاوز الثمانين من عمره ومع هذا يقول: " إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح".
وصدق من قال:
عمرك مـحدود فأدرك به بعض الأماني وانتهز واعقل
وهذا الإمام ابن الجوزي رحمه الله يذكر أنه اطلع على أكثر من عشر آلاف مجلد ( في المدرسة النظامية) ومع هذا قال عن نفسه: وأنا بعد في الطلب.
وسأل أحد العظماء ولده وكان نجيباً: يا بني، أي غاية تطلب في حياتك ؟ وأي رجل من عظماء الرجال تحب أن تكون ؟ فأجابه: أحب أن أكون مثلك يا أبت، فقال: ويحك يا بني! لقد صغَّرت نفسك، وسقطت همتك ، فلتبك على عقلك البواكي، لقد قدَّرت لنفسي يا بني في مبدأ نشأتي أن أكون كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلما زلت أجدُّ وأكدح حتى بلغت المنزلة التي تراها، وبيني وبين علي ما تعلم من الشأو البعيد والمدى المستطيل، فهل يسرك وقد طلبت منـزلتي أن يكون ما بينك وبيني من المدى مثل ما بيني وبين علي رضي الله عنه.
وكان أبو مسلم الخولاني رحمه الله حازماً مع نفسه سامياً في همته، وكان يخاطب نفسه ويقول: " قومي فوالله لأزحفن بك إلى الله زحفاً حتى يكون الكلل منك لا مني ".
ويقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: " المرء حيث يجعل نفسه، إن رفعها ارتفعت، وإن وضعها اتضعت ".
وجاء في التاريخ أن برناروت رأس الأسرة الحاكمة على السويد لم يكن في إبان أمره إلا عاملاً صغيراً في مصنع، وكان يخيل إليه أثناء العمل أن هاتفاً يهتف في أذنه بكلمة " ستكون ملكاً "، فطفق من حينه يعمل لتحقيق هذا الحلم حتى صار ملكاً.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " الراحة للرجال غفلة ".
وقال شعبة: لا تقعدوا فراغاً فإن الموت يطلبكم .
وسأل سائل ابن الجوزي رحمه الله فقال: أيجوز أن أفسح لنفسي في مباح الملاهي ؟ فقال ابن الجوزي: عند نفسك من الغفلة ما يكفيها.
ويحسن بنا الإشارة إلى أن ثمة مؤشرات وعلامات تدل على علو همة المرء، ولعل من أهمها ما يلي:
*تحرقه وحسرته على ما مضى من أيامه وما فرَّط في سالف زمانه.
*كثرة همومه وتألمه لحال الأمة وما فيها من ظلم وعنت وتخلف.
*موالاته النصيحة، وتقديم الحلول والاقتراحات لمن يأمل فيهم التغيير ويرجو منهم الإصلاح.
*طلبه للمعالي دائماً فيما يفعله أو يتعلمه أو يصلحه.
*كثرة شكواه من ضيق الوقت وعدم قدرته على إنجاز ما يريده في اليوم والليلة، وليست هذه الشكوى من نمط ما نسمع من ترداد كثير من الناس لها، ولكنها شكوى حقيقية نابعة من عمل دؤوب يستغرق أوقات الشخص فيبث تلك الآهات الصادقة.
*قوة عزمه وثبات رأيه وقلة تردده، فهو إذا قرر أمراً راشداً لا يسرع بنقضه بل يستمر فيه ويثبت عليه حتى يقضيه ويجني ثمرته، ولا شك أن كثرة التردد ونقض الأمر بعد إبرامه من علامات تدني الهمة.
وإليك هذه الوصايا الخمس عشرة التي يمكن بها النهوض بهمتك والسمو بها، وهي:
(1) الاستعانة بالله والتوكل عليه وكثرة الدعاء والطلب من الله تعالى.
(2) استشعار الأجر والثواب عند الله تعالى، والتطلّع إلى الجنان التي أعدَّها الله تعالى للمجتهدين.
(3) مراجعة برنامجك اليومي وتحديد أعمالك بوضوح.
(4) الابتعاد عن سفاسف الأمور ودناياها.
(5) مراعاة الأولويات بعد تحديدها.
(6) قراءة سِيَر أهل الجد والاجتهاد والهمة العالية.
(7) الابتعاد عن الانغماس في الكماليات والأمور الثانوية.
(
التأمل في المكانة السامية وفي إعزاز النفس الذي تتسبب به الهمة العالية.
(9) محادثة النفس وإقناعها بأهمية الهمة العالية وضرورتها.
(10) مجاهدة النفس ومخالفتها وعدم الاستسلام لها.
(11) منافسة القمم، ورفع الرأس إلى السماء، وقبول التحديات.
(12) التفاؤل لا التشاؤم واليأس.
(13) تجنب الإفراط في المباحات، كما قال القائل:
من هجر اللذات نال المنى ومن أكب على اللذات عض على اليد
(14) الحذر من التسويف، وفي هذا يقول الشاعر:
ولا ادَّخر شغل اليوم عن كسل إلى غد، إن يوم العاجزين غد
(15) تجنب الاستجابة السريعة للصوارف الأسرية والملهيات الاجتماعية.
واعلم كذلك أن من يسمو بهمته ويعلو بها مبتغياً وجه الله تعالى فإنما هو أولاً وأخيراً يعمل لنفسه، ويقدم لآخرته، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وفي الحديث القدسي: " يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها ". (رواه مسلم)
وأخيراً تأمل وتفكر وتدبر ما سطره الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه " الفوائد " حيث قال: " الكيِّس يقطعُ من المسافة بصحة العزيمة وعُلُوِّ الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل أضعافَ أضعافَ ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاقّ، فإن العزيمة والمحبة تُذهبُ المشقةَ وتُطيِّبُ السير، والتقدم والسبق إلى الله إنما هو بالهِممِ وصدقِ الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة صاحب العمل الكثير بمراحل.
سنواصل معكم الجزء الثاني الردود لاعرف مدى حرصكم على الجزأين الثاني والثالث[center]