من وعد وفى ومن وفى دخل الجنة نسأل الله جل وعلا أن نكون من الموفين في الدنيا وممن يدخلون الجنة في الآخرة وها أنا أفي بوعدي و أنقل لكم الجزء الثاني من موضوع 7 طرق لهندسة الحياة وصناعة التأثير (الجزء الثاني )
عليك بسيد التأثير
لما دخل الحجاج بن يوسف الثقفي البصرة قال: من سيد البصرة ؟ فقيل له: الحسن البصري، قال: كيف وهو من الموالي ؟! فقيل له: لأن الناس احتاجوا إلى علمه وزهد هو عما في أيدي الناس.
نعم، إنه العلم الذي يرفع الله به صاحبه مهما كان شكله أو لونه أو صنعته أو حالته.. إنه سيد التأثير.. تأثير موصول بالسماء.. تأثير عابر للقارات، بل وعابر للقرون والأحقاب، إذ لازال الناس يتأثرون بأقوال العلماء الأفذاذ الذين بليت أجسادهم منذ أمد بعيد وما بليت أقوالهم وأعمالهم ولا تبدد تأثيرهم ونفعهم.
ولذلك قالوا: عوامل الفوز والنجاح والتأثير ثلاثة، مجموعة في الكلمة ( ASK) ومعناها ما يلي:
1. (A) Attitude : أي أن تكون صاحب مواقف وقناعات راسخة.
2. (S) Skills : أي أن تكون صاحب مهارات .
3. ( K) Knowledge أي: أن تكون صاحب علم ومعرفة .
ولقد تأملت في واقع كثير من المؤثرين فوجدت أن أغلبهم تمكنوا في علم من العلوم أو في فن من الفنون، فاستطاعوا أن يفرضوا أنفسهم، وأن يلووا أعناق الناس إليهم، فاقتدى بهم خلق كثير وتأثروا بأفكارهم ومبادئهم رغم أنهم لم يكونوا من أعيان الناس ووجهائهم.
لقد رفع الله من قيمة هؤلاء العلماء المؤثرين قبل أن يرفعهم البشر، فقال تعالى: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير ". (المجادلة، الآية 11)
وقال تعالى: " أمَّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمةَ ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكَّر أولوا الألباب ". ( الزمر، الآية 9)
ويقول الإمام الشافعي رحمه الله:
العلم مغرس كل فخر فافتخر واحذر يفوتك فخر ذاك المغرس
واعـلم بأن العلم ليـس يناله من همه في مـطعـم أو ملبس
فلعل يوماً إن حضرت بمجلس كنت الرئيس وفخر ذاك المجلس
قال أبو الأسود الدؤلي: ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك.
إن الأكابر يحكمون على الورى وعلى الأكابر يحكم العلماء
ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أيها الناس عليكم بطلب العلم، فإن لله رداء محبة، فمن طلب باباً من العلم ردَّاه الله بردائه ذاك .
ويقول الحسن رحمه الله: لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم. أي أنهم بالعلم يخرجون الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية .
ويقول يحيى بن معاذ: العلماء أرحم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من آبائهم وأمهاتهم، قيل: وكيف ذلك ؟ قال: لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، وهم يحفظونهم من نار الآخرة.
ويقول الحسن البصري: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اطرد الليل والنهار.
ويقول سفيان الثوري: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم.
ويقول الحسن البصري: يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء فيرجح مداد العلماء.
ويقول الشاعر:
رضينا قسمة الجبـار فينا لنا علم وللجهال مال
فعز المال يفنى عن قريب وعز العلم باق لا يزال
وقال ابن وهب: كنت عند مالك قاعداً أسأله، فجمعتُ كتبي لأقوم، فقال مالك: أين تريد ؟ قلت: أبادر إلى الصلاة، قال: ليس هذا الذي أنت فيه دون ما تذهب إليه إذا صحت فيه النية .
ولقد أكرم الرسول صلى الله عليه وسلم وقدَّم من سمت نفوسهم وارتفعت هممهم في طلب العلم، فقد أخرج الطبراني بسند جيد أن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: " قدمت في وفد ثقيف حين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: من يمسك لنا رواحلنا ؟ فكل القوم أحب الدخول على النبي صلى الله عليه وسلم وكره التخلف عنه.
قال عثمان: وكنت أصغرهم فقلت: إن شئتم أمسكت، لكن على أن عليكم عهد الله لتمسكن لي إذا خرجتم، قالوا: فذلك لك، فدخلوا عليه ثم خرجوا فقالوا: انطلق بنا، قلت: أين ؟ قالوا: إلى أهلك!! فقلت: خرجت من أهلي حتى إذا حللت بباب النبي صلى الله عليه وسلم أرجع ولا أدخل عليه، وقد أعطيتموني ما قد علمتم ؟!! ويذكرهم بالعهد، قالوا: فأعجل، إنا قد كفيناك المسألة، فلم ندع شيئاً إلا سألناه.
يقول عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يفقهني في الدين ويعلمني!! قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " ماذا قلت ؟ " قال عثمان: فأعدت عليه القول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أصحابك، اذهب فأنت أمير عليهم وعلى من يقدم عليك من قومك " .
وانظر إلى معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي قال فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " من أراد الفقه فليأت معاذ بن جبل ". (أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد)
ولما أصيب معاذ بالطاعون ( في الشام ) جاءه رجل فجعل يبكي على معاذ، فقال له معاذ: ما يبكيك ؟ قال: ما أبكى على دنيا كنت أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم الذي كنتُ أُصيبه منك، فقال معاذ: لا تبكه، فإن إبراهيم صلوات الله عليه كان في الأرض وليس بها علم، فآتاه الله علماً، فإن أنا مت فاطلب العلم عند أربعة: عبد الله بن مسعود، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن سلام، وعويمر أبي الدرداء.
ويقول أرسطو: " الفرق بين العالم والجاهل، كالفرق بين الحي والميت ".
ويقول المثل الصيني: زين عقلك بالعلم، خير لك من أن تزين جسمك بالجواهر.
وما أجمل الحوار اللطيف الذي دار بين العلم والعقل، حيث اختلف الإثنان في أيهما أشرف وأكرم وأرفع منـزلة ( العقل أم العلم )، فكانت النتيجة هي ما سطره الشاعر حيث قال:
علم العليم وعقل العاقل اختلفا من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا
فالعلم قال أنا أحرزت غايتـه والعـقل قال أنا الرحمن بي عـرفا
فأفصح العلم إفصاحاً وقال له بأيـنا الله فـي قـرآنه اتصـفا
فبان للعـقل أن العلم سيـده فقبَّل العقل رأس العلم وانـصرفا
لقد كان ولا يزال للعلماء تأثير فذ، ولو تأملنا في قصة الإمام أحمد بن حنبل في فتنة خلق القرآن لوجدنا أن الأمة كانت تنتظر ما يقوله هذا العالم الجليل وما يتخذه من مواقف، ولذا عندما زاره أحد أصحابه في سجنه وقال له: قل كلاماً، إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، فقال الإمام أحمد: انظر ماذا ترى ؟ فرأى الناس على امتداد البصر ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد ليقتدوا به، فقال الإمام أحمد: أنجو بنفسي وأضل هؤلاء ؟! والله لا يكون هذا أبداً.
ولما قدم الخليفة الجهبذ هارون الرشيد المدينة استقبله كل الناس إلا العالم الجليل الإمام مالك بن أنس رحمه الله كتب إليه فقال: إن العلم يؤتى له، فجاءه هارون، فاحتبسه عند بابه، ثم خرج إليه الإمام مالك فقال له: قد علمت أنك تطلب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأردت أن أتهييىء لذلك، قال هارون: اجعل لي مجلساً خاصاً، فقال مالك: يا هارون، إن الخاص لا يُنتفع به، فجلس هارون مع الناس لكنه في موضع متميز، فقال مالك: حدثنا فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من تواضع لله رفعه "، فجلس هارون حيث يجلس الناس، وصدق من قال:
العلمُ زينٌ وتشريـفٌ لصاحبه فاطلبْ هُديتَ فنونَ العلم والأدبا
لا خيرَ فيمن له أصـلٌ بلا أدب حتى يكون على ما زانه حدبـا
العلم كنـزٌ وذُخـرٌ لا نفاذ له نعم القرينُ إذا ما صاحبٌ صحبا
قد يجمعُ المـرءُ مـالاً ثم يُسْلَبُه عما قليل فيلقى الذُّل والحَربـاَ
وجامعُ العلمِ مغبـوطٌ به أبداً فلا يُحاذرُ فوتاً لا ولا هَـرَبـا
يا جامع العلم نِعْمَ الذُّخرُ تجمعه لا تعدلنَّ بـه درّاً ولا ذهـبـا
لقد جلس التابعي الجليل مكحول ( عالم أهل الشام ) في مجلسه ذات يوم يُلقي درسه كعادته وحوله طلاب العلم يأخذون عنه إذْ أقبل الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك في زينته وتبختره، وجاء إلى حلقة مكحول، فأراد الطلاب أن يوسعوا له، فقال مكحول: دعوه يتعلم التواضع.
ويقول الحكيم الصيني ( كونفوشيوس): العلم بغير إيمان ضرب من النقص المعيب، أما الإيمان بغير بعلم فمهزلة لا تطاق.
إن الأدوار التي قام بها العلماء (عبر التاريخ) في الإصلاح والتغيير والتوجيه كثيرة وكبيرة، فعلى سبيل المثال لا الحصر أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله ورجاء بن حيوة، وهما من العلماء الصالحين، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا عليّ ( فعد الخلافة بلاء).
فقال سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أباً، وأوسطهم عندك أخاً، وأصغرهم عند ابناً، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك. وقال رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، وأكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إن شئت.
لقد اعتنى صناع التأثير بالعلم أيَّما اعتناء، وجاهدوا في سبيله أيَّما جهاد، وأخلصوا لله تعالى في طلبه، فبلغوا به المنـزلة الرفيعة والدرجة السامية، فرحمة ربي عليهم ما طلع الليل والنهار.
يقول القاسم: أفضى بمالك ( بن أنس ) طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه.
وحكى الحافظ بن عبد البر: أن مسروقاً رحل في حرف، وأن أبا سعيد ( الحسن البصري) رحل في حرف أيضاً.
ولقد تألمتُ كثيراً من واقع كثير ممن يعدون أنفسهم من صناع التأثير، تجد أحدهم قد أنهى دراسته الجامعية وربما الماجستير وأحياناً الدكتوراه ولا يفهم في تخصصه إلا الشيء اليسير، ولا تلمس له تمكناً أو عمقاً في المجال الذي درسه طوال سنوات عديدة من حياته، وإذا تكلم في تخصصه تعثر وتلعثم وكأنه ما درس شيئاً، وإذا أراد أن يأتي بفكرة في مجاله الذي يفترض أن يبدع فيه إذْ بفكرته هذه كأنها فكرة طفل صغير لم يفقه من الحياة شيئاً، ترى كيف يكون أمثال هؤلاء من صناع التأثير ومهندسي الحياة ؟!
إنني هنا أهتف في آذان صناع التأثير النافع وفي عقولهم وقلوبهم أن يعيدوا النظر في مدى اعتنائهم بالعلم والعلماء، ومدى اقترابهم من هذا المؤثر الفذ، بل والذي نفسي بيده إنه سيد المؤثرين وأستاذهم وتاجهم، إنه العلم الذي طالما قدم المتأخرين، وأعز الأذلة والصاغرين، وسوَّد العبيد والموالي، ورفع أتباعه إلى قمم شاهقة وآفاق بعيدة.
يقول الإمام علي بن أبي بن طالب رضي الله عنه لكميل بن زياد: " العلم خير لك من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العالم يزكو على الإنفاق والمال تنقصه النفقة، العلم حاكم والمال محكوم عليه".
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهـم على الهدى لمن استهـدى أدلاَّء
وقدر كل امرىء ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعـداء
ففز بعلم تعـش به حيًّا أبـداً الناس موتى وأهل العلم أحياء