[size=9]أعتقد أن مرد ذلك إلى سبب نفسي بالدرجة الأولى، بما يعني ذلك من خوف من التغيير وهيبة منه، وخوف من أن يكون المستقبل أسوأ من الحاضر، وهذه الفئة من الناس هي التي تطبعت فعلا مع الخمول والجمود، وأصبحت العادةُ وما عليه حال الأمة معيارا وأصلا، وكأن أمتنا محكوم عليها بالتبعية للآخر، فأين هذه الفئة من قول الله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس"؟ وهل يمكن لأمة الشهادة أن تتحقق ميدانا وواقعا على يد مثل من يقول: هذا ما وجدنا عليه آباءنا؟.
لقد عرض القرآن الكريم لحالات كثيرة من الذين تصدوا لأنبيائهم لما جاؤوهم بمثل عليا حقيقية تنتشلهم مما كانوا فيه وترتفع بهم من الواقع الطيني الأرضي إلى واقع آخر تتحقق فيه إنسانية الإنسان ويكون الدين فيه حكما.
لقد جاء القرآن الكريم بآيات توضح للمعتبرين بسنن التغيير وقوانينه، وبالظاهرة الاجتماعية في شكلها العام، فقال الله تعالى على لسان المشدودين إلى الأدنى بفعل جاذبية الأرض: "قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون".. وقالوا أيضا: "حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا". إنها آيات تبين حقيقة المثل الأعلى الطيني المنخفض المحكوم بحكم العادة والموروث.
وثمة سبب اجتماعي آخر يمكن أن يكون مبررًا لاتخاذ فئة من الناس مثلا أعلى منخفضا، ولنا في التاريخ نماذج من ذلك، فهذا فرعون الطاغية كان يرى في كل تغيير وفي كل محاولة لتجاوز الواقع المعاش آنذاك محاولة لتجاوزه شخصيا وتجاوز النظام العام الذي وضعه على مقاسه بما يضمن له السيطرة والتحكم في رقاب العباد، ومن ثم كانت إرادة الفراعنة، كما هو متأصل في كل الدكتاتوريين على مر التاريخ بشكل عام، أن يغمض الناس كلهم أعينهم عن الواقع الذي كانوا يعيشونه وقتئذ، وفي سياق ذلك عمل فرعون، ظلما وطغيانا، على تحويل الواقع الذي جمعه مع الناس إلى مطلق ليس ثمة أحسن منه مهما حاول المحاولون، فقال تعالى حاكيا عنه: "وقال فرعون ياأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري" وقال أيضا: "قال فرعون ما أُريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد". وكم يحفل مجتمعنا العربي بمثل هذه الأساليب بطرق أكثر خفاء لا يكاد يفقهها إلا ذوو البصائر الثاقبة.
خصائص ذوي المثل الأعلى الحق
حين نقرأ آيات الله تعالى نجد منها ما يرغب في معالي الأمور ويحفز عليها، ونجد منها أنه سبحانه أثنى على أصحاب الهمم العالية، وفي طليعتهم الأنبياء والرسل وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل، وعلى رأسهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: "فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل" (الأحقاف:35).. وقد أمر الله تعالى المؤمنين بالهمة العالية والتنافس في الخيرات فقال عز وجل: "سابقوا إلى مغفرة من ربكم" (الحديد:21)، وقال تعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين" [آل عمران:133).
هذه الآيات وغيرها لا يفهم مغزاها إلا الذين تشدهم هممهم العالية إلى كل ما هو من مقومات الشهادة على الناس، من خلال التأسي بمن كان لهم دور في تثبيت الإسلام ونشره، ولنا، على سبيل المثال لا الحصر، في ذلك الشاب العثماني المخلص محمد الفاتح الذي فتح "قسطنطينية" وهو ابن الثالثة والعشرين خير مثال، بعد أن اشتغل على تحقيق ذلك على مدى أربع سنوات، أي منذ أن كان عمره تسعة عشر عاما. ويمكن أن نستنتج من محمد الفاتح ومن أمثاله عدة معان وعبر منها:
1- الاهتمام بالقضايا الكبرى لا بسفاسف الأمور
إن الذي له همة عالية لا يرضى لنفسه أبدا أن يكون مجرد رقم من الأرقام التي لا اعتبار لها في هذه الحياة الدنيا، بل يؤمن إيمانا مطلقا أنه إذا لم يُضف شيئا في الدنيا ويترك من بعده أثرا يذكر له فسوف يكون زائدًا عليها، ومن ثم فهو لا يرضى بأن يحتل هامش الحياة، بل لا بد أن يكون في صلبها ومتنها، أي أنه لا يقبل أن يكون أسير حركة التاريخ، بل فاعلا فيه وموجها له بما يخدم الأمة.
لقد ضرب لنا الخليفة عمر بن عبد العزيز مثلا حيا في علو الهمة، وفي الانشغال بالقضايا الكبرى، فقال رضي الله عنه: "لقد اشتاقت نفسي للإمارة فنلتها، ولما نلتها اشتاقت للخلافة، ولما نلتها اشتاقت للجنة". إنها همة عالية طموحة وثابة، دائمة الترقي والصعود، لا تعرف الدعة ولا السكون.
2- التشبه بالعظام وعدم مخالطة الخاملين
من دنو الهمة عند كثير من الناس مخالطة أصحاب الأهواء والشهوات الذين وصلوا إلى درجة من دونية الأهداف، ليس لهم هدف في الحياة ولا غاية، وكأن شعارهم يقول: " إنما هي أرحام تدفع وأرض تبلع"، فهم يقضون أوقاتهم في اللهو وفي تحصيل متاع زائل، وتفاديا لذلك أوصى سلفنا الصالح بصحبة من لهم همم عالية ورسالة في الحياة، ومن ذلك قال أحد الشعراء العرب:
أنت في الناس تقــاس .. ... .. بمن اخــترت خليلاً
فاصحب الأخيار تعلو .. ... .. وتنل ذكراً جميلاً
إننا في حاجة إلى استلهام التجارب الناجحة في تاريخ الإسلام، وفي تاريخ رجاله الذين صاغوه بكبريائهم وعلمهم وأخلاقهم. سئل مرة بن شراحيل الهمداني الكوفي: أنى أصبت هذا العلم؟ فقال بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب.
وبالتالي فمثل هؤلاء الرجال هم الذين يجب أن نتأسى بهم ونعتبرهم مثلنا الأعلى، قد نخفق مرة أو مرتين لكننا لا نملك إلا أن نكرر التجربة.[/size][/size][/size][/size]