ويهدف الإسلام إلى تكوين المجتمع الصالح، كما هدف إلى الفرد الصالح، والأسرة الصالحة، وهما ـ لا شك ـ أساس متين لصلاح المجتمع المنشود.
والمجتمع الصالح هو الذي يرتبط أفراده وأسره بقيم الإسلام العليا، ومبادئه المثلى، ويجعلها رسالة حياته، ومحور وجوده.
وأهم القيم الإسلامية في هذا المقام هي:
(أ) التجمع على العقيدة: فالمجتمع الإسلامي ليس مجتمعا قوميا أو إقليميا، وإنما هو مجتمع عقائدي، مجتمع فكرة وعقيدة، وعقيدته هي الإسلام، فهو الأساس "الأيديولوجي" لهذا المجتمع.
قد يكون أبناء هذا المجتمع من أجناس مختلفة، أو ألوان مختلفة، أو أوطان مختلفة، أو ألسنة مختلفة، أو طبقات مختلفة، ولكن هذا الاختلاف كله يذوب وينصهر أمام وحدة العقيدة، أمام "لا إله إلا الله ـ محمد رسول الله"، أمام الإيمان المشترك الذي يضم الجميع في رحاب أخوته: (إنما المؤمنون إخوة).
فإذا أردنا أن نصف هذا المجتمع بصفة فذة تميزه عما سواه، لم نجد إلا أن نقول: إنه "مجتمع مؤمن"، أو هو "مجتمع المؤمنين" أولئك الذين وصفهم الله تعالى في مطلع سورة البقرة: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم، وأولئك هم المفلحون).
والإيمان الإسلامي ليس مجرد شعار أو دعوى، أو تعصب على الآخرين، وإنما هو حقيقة تستقر في النفس، ينبثق عنها سلوك، ويصدقها عمل إيجابي، ومن ثم جسد القرآن الإيمان أبدا في أعمال وأخلاق، كما في أوائل سورة الأنفال، وسورة المؤمنين، وأواخر سورة الحجرات، وغيرها.
(ب) ومن هنا جاء الاهتمام بقيمة أخرى من القيم التي يقوم عليها المجتمع الصالح الذي يهدف الإسلام إلى تحقيقه، وهي: "احترام العمل الصالح" بل تقديسه، سواء كانت صيغته دينية كالصلاة والصيام والحج والعمرة، والذكر والتلاوة والدعاء، أم دنيوية، كالسعي في طلب الرزق، وعمارة الأرض بالزراعة والصناعة والاحتراف، وكل ما فيه منفعة الناس، والإحسان إليهم. فهذا أصل مقرر معروف، اعتبره القرآن ركنا في كل دين، مقرونا بالله واليوم الآخر. قال تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
وقرن القرآن العمل بالإيمان في أكثر من سبعين آية، في مثل قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا).
ولا ريب أن إقامة شعائر الله، وأداء فرائضه الكبرى ـ من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت هي أول ما ينطبق عليه معنى العمل الصالح، فليس هناك عمل أصلح للمخلوق من معرفة خالقه، وعبادة ربه، وإخلاص الدين له، شكرا لنعمته، ووفاء بحق ربوبيته، ولكننا رأينا في حديثنا عن "العبادة" في "مقومات الإسلام" أنها تسع الحياة كلها، وتشمل كيان الإنسان كله، فكل عمل نافع عبادة.
(ج) والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أصل بين من أصول هذا الدين، فليس يكفي ـ في منطق الإسلام ـ أن يكون المرء صالحا في خاصة نفسه، غافلا عن فساد غيره، بل الصالح عنده حقا، من أصلح نفسه، وحاول إصلاح غيره، ولو بالدعوة والأمر والنهي، كما قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون). وبهذه الخصيصة ترجحت الأمة المسلمة على سائر الأمم: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله).
ومن هنا سجل القرآن لعنة الله لبني إسرائيل ـ على لسان داود وعيسى ابن مريم ـ لسكوتهم عن المنكر ـ وعدم تناهيهم عنه: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون).
(د) والجهاد في سبيل الله ـ حماية للحق، وتثبيتا للخير، وتأمينا للدعوة، ومنعا للفتنة، وصدا للمغيرين، وتأديبا للناكثين، وإنقاذا للمستضعفين ـ أصل إسلامي لا ينكره مسلم، ولا يجهل منزلته وفضله، وما أعد الله لأهله، فضلا عن مشروعيته، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض؟ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا، والله على كل شيء قدير)، (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها)، (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين،… وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله)، وقال: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا)، (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).