التأديب تدبير للحاضر أم تدميرٌ للمستقبل!
ليس المهم ماذا تقصد و ماذا تريد... المهم ماذا يرى و يفهم أبناءك
د. مصطفى أبو سعد ( مجلة عالم الابداع )
يعتقد البعض أن العنف و الشدة مع الأطفال من أنجع الوسائل التأديبية، و
يخطئ آخرون وهم يؤكدون أنهم لا يمارسون العنف في تربية أبنائهم، فهم لا
يضربون ولا يرغمون ولا يفرضون ولا يتحدون أبناءهم.
ويدفعون عن أنفسهم تهمة العنف ولا يدرون أن الكثير من سلوكياتهم التربوية
ينطلقون فيها من قوتهم لحل المشكلات وأنهم يبنون علاقاتهم بأبنائهم على
أساس الأعلى بالأدنى والأقوى بالضعيف، و هذه من وسائل العنف الممارسة مع
الأبناء.
إن العنف لا يعني العقاب والضرب فحسب.. العنف يعني استعمال قوتك و قدراتك مع أبنائك.
ستة مظاهر للعنف مع الأبناء:
1- منع الطفل من الحركة:حين تلجأ الأم –مثلاً–
لإعادة ابنها إلى كرسيه و ربطه و منعه من الحركة من دون رغبته و أمام
احتجاجه تكون قد مارست نوعاً من العنف مع طفل صغير. فالطفل في هذه الحالة
أذعن لمنطق القوة و الضعف، و يشعر بضعفه وعجزه حين يتكرر هذا النوع من
الإخضاع.
2- إرغام الطفل:الطفل الذي يفرض عليه القيام
بسلوكيات معينة أو ترك أخرى أو يرغم على الاعتذار أو السكوت دون أن
يُشْرَح له أسباب ذلك أو يقتنع بمبررات، كثيراً ما يخضع لنوع من العنف
التبريري.
3- ابتزاز الطفل:حينما يخضع الطفل للغة
الابتزاز، (بربط المكافأة بالعمل ومنعها إن لم يتحقق العمل) من مثل " لو
قمت بهذا العمل سوف تحصل على ما ترغب به" أو " لو أديت واجباتك المدرسية
فسأمنحك هدية.." فغنما يخضع لشكل من أشكال العنف.
4- فرض الرأي الأبوي مقابل إقصاء آراء الأبناء:إنّ
الأب الذي يفرض رأيه باستمرار ولا يسمح لأبنائه بإبداء وجهات نظرهم وطرح
أفكارهم، و يفرض أحكامه دون أن يمنح أبناءه فرصة الحديث و تفسير آرائهم و
طرحها، لا يحرم نفسه من فرصة الإنصات للأبناء وفهم أفكارهم و حسب، بل
يمارس نوعاً من العنف في علاقته بالأبناء.
5- التفسير الذاتي لمواقف الأبناء:إنّ الأب الذي
يفسر مواقف و سلوكيات أبنائه دون عناء الاستماع لمنطلقاتهم ومبرراتهم ودون
محاولة فهم دوافع سلوكياتهم وخصائص النمو لديهم و يؤوِّل كل ما يصدر عنهم
من سلوك من خلال فهمه الذاتي وتفسيراته الخاصة يُشعر أبناءه بالتبعية
بدلاً الاستقلالية و يجعلهم يسقطون في الاعتمادية الدائمة على الكبار و هو
بهذا يمارس عنفاً مع أبنائه.
6- التهديد... من أسوأ أنواع العنف:
أ- التهديد اللطيف:
مهما كان شكل التهديد فإنه يبقى من أسوأ أنواع العنف و أشدها ضرراً بالأبناء.
و التهديد اللطيف هو من السلوكيات التي ينبغي الحذر من ممارستها في الحياة
الأسرية لأن آثارها السلبية على نفسيته أكبر بكثير من التهديد القاسي. و
قد يتساءل البعض هل هناك تهديد يتسم باللطف؟! و أقول: نعم، وهو الأكثر
شيوعاً في العلاقات الأسرية.
إن الأم التي تقول لابنها بكل هدوء وابتسامة: "إن لم تؤدِّ واجباتك
المدرسية لن أحبك مثل باقي إخوتك" أو "لن أحكي لك حكاية قبل النوم" أو "لن
تخرج معي اليوم" إنما تمارس تهديداً لطيفاً و عنفاً خطيراً في علاقتها مع
ابنها.
إن مثل هذا التهديد يسحب من الطفل حاجاته النفسية –التي تحدثنا عنها
سابقاً– (الطمأنينة و المحبة) فهو يراها مهددة و مرتبطة بسلوك معين و ينشأ
لديه نوع من الخوف وفقدان الشعور بالأمان.
ممارسة التهديد اللطيف ولو بأهداف إيجابية ونوايا حسنة تعتبر نوعاً من العنف غير المسموح به مع الأطفال.
ب - التهديد الخفي:
الأطفال الأكبر سناً يخضعون أحياناً لأنواع من التهديدات الخفية التي
تصيبهم بالإحباط والشعور بالخطأ الدائم والذنب المستمر أو بالنقص والعجز
والضعف مما يشل حركة التفكير والإبداع لديهم.
إن الأم التي عودت ابنها على مساعدته في حلّ واجباته المنزلية حين توجه له
كلاماً من مثل: " سترى لو لم أكن معك كيف ستحل واجباتك؟! " أو " من دوني
ماذا ستفعل؟! ".. إنما ترسلُ له في طيات هذه العبارات تهديدات خفية و
رسائل سلبية غير مباشرة تؤكد قوة الأم وعجز الابن حتى و لو كانت منطلقاتها
حسنة. فعلم الاتصال يؤكد أن الكلام المباشر يشكل في أحسن الأحوال 7% من
الرسالة، وأن ما وراء الرسالة اللفظية والرسالة غير اللفظية هو الذي يشكل
الحيز الأكبر من الرسائل الخفية (93%).
إن الأبناء يميلون –عادة– إلى الشعور بالخطأ و الضعف وهو نوع من الحالة
النفسية والصراع الداخلي الذي يعيشه الأبناء بين ميل للاستقلالية و
الاستمرار في الاعتماد على الآخرين. و مثل هذه التهديدات الخفية واللطيفة
قد ترجّح لديهم كفّة الاستمرار في الاعتماد على الكبار.
كثيراً ما يكبر الطفل الذي خضع للتهديد الخفي و يكبر معه شعور مستمر
بالضعف و العجز وخوف دائم من الخطأ. و تهديد الطفل بأي نوع من أنواع
التهديد يحمل رسالة أكيدة له بأنك لا تحبه لذاته وإنما حبك له مشروط بسلوك
معين.
التأديب وبُعد النظر التربوي:
إن قصر النظر، من أهم آفات التربية. وكل تربية تقتصر على النتائج القريبة،
غير حاسبه حساباً للنتائج البعيدة، لهي تربية ضارة أشد الضرر، سواء كان
ذلك في الحياة الفردية أم الاجتماعية.
من أخطاء التأديب الحرص الأبوي على رؤية و تلمس النتائج بأسرع وقت و لو كان ذلك على حساب المستقبل و شخصية الطفل.
ولذلك يلجأ هؤلاء الآباء غالباً إلى وسائل سلبية لتأديب أبنائهم مثل العنف
والشدة والقسوة والمبالغة في الهدايا والمكافأة. و لقد بيّنا في موضوع
البرمجة الإيجابية لسلوك الولد أن الطفل بحاجة إلى متابعة و برمجة على
المدى الطويل وهذا هو الطريق الصواب لتأديب إيجابي وحسن التربية. و
بالمقابل فإن السلوكيات الأبوية الخاطئة تُعَدُّ كذلك برمجة سلبية للطفل.
الطفل المعاكس:
ونورد في هذا السياق نصاً أدبياً واقعياً أدبياً للكاتب ساطع الحصري يسلط
من خلاله الضوء على نوع من السلوك الأبوي الخاطئ تجاه سلوك غير مقبول لدى
طفل معاكس عنيد.. يقول الكاتب:
كنت في زيارة صديق لي و إذا بضيف أتاه مع ولده و أخذ يتحدث إليه عن شؤون
شتى. وكان الولد يتدخل في الحديث بصورة غريبة تنم عن وقاحة وشراسة.. فأراد
صاحب الدار أن يذهب بالطفل إلى فناء المنزل و اقترح ذلك عليه و على والده.
فارتاح الوالد لهذا الاقتراح إلا أن الطفل لم يقبل به وصاح معانداً و
مكابراً:
لا أروح !.. و عبثاً حاول صديقي تحبيبه ليلعب و يتفسح في الحديقة، ولكنّه استمرّ يصيح معانداً و مكابراً: لا أريد .. لا أروح ..
عندئذ تدخّل الوالد في الأمر؛ و بعد الإشارة على صاحب الدار بالتريث
والتفرّج، صاح بالولد، بغضبٍ مفتعل، قائلاً: لا تذهب إلى اللعب! ابق معنا
و إيّاك أن تتحرّك!..
غير أن الولد انتصب في هذه المرة أيضاً معانداً و مكابراً، وصاح في والده قائلاً: لا بد أن أروح!..
كرر الوالد النهي على المنوال نفسه: أقول لك لا تروح! فأجابه الولد حينها: قلت لك: إنني سأروح!
وتكرّر الأخذ والرد بين الوالد والولد مرات عدة. وكان الولد يصر على
العناد، ويرجع إلى الوراء بضع خطوات، مقترباً على هذه الصورة من الباب و
في الأخير عندما كرر الوالد نهيه مرة أخرى، صاح الولد بوجهه صياحاً
نهائياً، قائلاً: أريد أن أروح! وخرج من الباب فوراً...
عندئذ أخذ الوالد يضحك ضحكة المنتصر المفاخر و قال لنا، معجباً بنفسه وعمله إعجاباً كبيراً: " هكذا نتغلب على عناده في كلّ مرة!
إنه عنيد جداً، وهذا ما حدا بنا إلى الاحتيال بهذه الصورة، فصرنا نقول له عكس ما نريده ظاهراً ليفعل ما نريده حقيقة.
قال ذلك، مرفقاً قوله بقهقهة طويلة، ثم أخذ يحدث في عيني تحديق من ينتظر الاستحسان و يطلب الهتاف.
فهمت عندئذ سر وقاحة هذا الولد البائس، وطفقت أتبع بالخيال صفحات هذه المأساة التربوية..
الآفة التربوية من خلال هذه الحادثة:
ولد يعصي و يعاند من حين إلى حين، مثل جميع الأولاد، و والد يحاول معالجة
هذه المعاندة بطريقة سقيمة تؤدي إلى تغذيتها و تقويتها من حيث لا يدري:
لم يفكر الوالد في هذا الصدد في شيء سوى (حمل الولد على عمل معين) فلم ير
بأساً من أمره بعكس ما يريد لحمله على إتيان ما يريد، وهو يرتاح للوصول
إلى الغاية القريبة التي يرمي إليها بأي طريقة كانت.
ولكنه لم يفقه أنه بعمله هذا يشوق الولد على العصيان والمخالفة، و يخسر جميع الغايات البعيدة التي كان يجب عليه ألا يهمل ملاحظتها.
إنه يرتاح إلى النتيجة لأنه يرى أن الولد قد فعل ما يريده هو. غير أن
الولد ينظر إلى الأمور بنظر يختلف اختلافاً كلياً. إنه يرى والده أذعن
لإرادته ولم يقدر أن يعمل شيئاً لكبح عصيانه، بل ارتاح لمخالفته.. فيتشجع
على المضي في المخالفة والعصيان.. فتنمو فيه هذه النزعة يوماً فيوماً، إلى
أن يصبح (آلة مخالفة) تعمل عكس ما يطلب منها على الدوام كما رأيناها..
ترى ماذا سيكون حظ هذه النفسية الغريبة من سعادة الحياة؟ و ماذا سيكون
تفاعلها مع النفسيات الأخرى، في الحياة الاجتماعية عندما تضطر إلى معاشرة
الناس؟!..
إن الوالد قد يكون مرتاحاً إلى النتيجة الفوريّة بل و يفتخر بها لأنها أتت
وفق رغبته الحقيقية العاجلة.. ولكن يا ترى هل يدري مبلغ الشرور التي بذرها
بهذه الصورة في نفس الولد المسكين؟!.