بسم الله الرحمن الرحيم
و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ܓܨالشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر ܓܨ
[ من آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي ]
- 1 -
أتمثّله متساميًا إلى معالي الحياة، عربيدَ الشباب في طلبها، طاغيًا عن القيود العائقة دونها، جامحًا عن الأعنَّة الكابحة في ميدانها، متَّقد العزمات، تكاد تحتدم جوانبه من ذكاء القلب، وشهامة الفؤاد، ونشاط الجوارح.
أتمثَّله مقدامًا على العظائم في غير تهوّر، محجامًا عن الصغائر في غير جبن، مقدّرًا موقع الرجل قبل الخطو، جاعلًا أو الفكر آخر العمل.
أتمثّله واسع الوجود، لا تقف أمامه الحدود، يرى كل عربي أخًا له، أخوةَ الدم، وكلَّ مسلم أخًا له، أخوة الدين، وكل بشر أخًا له، أخوة الإنسانية، ثم يُعطي لكل أخوّة حقّها فضلًا أو عدلًا.
أتمثّله حِلْفَ عمل، لا حليف بطالة، وحلس معمل، لا حلس مقهى، وبطل أعمال، لا ماضغ أقوال، ومرتاد حقيقة، لا رائد خيال.
أتمثّله برًّا بالبداوة التي أخرجت من أجداده أبطالًا، مزورًّا عن الحضارة التي (رمته بقشورها)، فأرخت أعصابه، وأنّثت شمائله، وخنّثت طباعه، وقيّدته بخيوط الوهم، ومجّت في نبعه الطاهر السموم، وأذهبت منه ما يُذهب القفص من الأسد من بأس وصولة.
أتمثّله مقبلًا على العلم والمعرفة ليعمل الخير والنفع، إقبال النحل على الأزهار والثمار لتصنع الشهد والشمع، مقبلًا على الارتزاق، إقبال النمل تجدُّ لتجِدَ، وتدَّخر لتفتخر، ولا تبالي ما دامت دائبة، أن ترجع مرة منجحة ومرة خائبة.
أحبّ منه ما يُحبُّ القائل:
أُحِبُّ الْفَتَى يَنْفِي الْفَوَاحِشَ سَمْعُهُ … كَأَنَّ بِهِ عَنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ وَقْرًا
وأهوى منه ما يهوى المتنبى:
وَأَهْوَى مِنَ الْفِتْيَانِ كُلَّ سَمِيذَعٍ … أَرِيبٍ كَصَدْرِ السَّمَهْرِيِّ الْمُقَوَّمِ
خَطَّتْ تَحْتَهُ الْعِيسُ الْفُلَاةَ وَخَالَطَتْ … بِهِ الْخَيْلُ كَبَاتَ الخَمِيسِ الْعَرْمَرِمِ
يا شباب الجزائر، هكذا كونوا! ... أو لا تكونوا! ...
__________
* نشرت في العدد 5 من جريدة «البصائر»، 5 سبتمبر سنة 1947.
- 2 -
أتمثّله محمديّ الشمائل، غير صخّاب ولا عيّاب، ولا مغتاب ولا سبّاب، عفًّا عن محارم الخلق ومحارم الخالق، مقصور اللسان إلا عن دعوة إلى الحق، أو صرخة في وجه الباطل، متجاوزًا عما يكره من إخوانه، لا تنطوي أحناؤه على بغض ولا ضغينة.
أتمثّله متقلّبًا في الطاهرين والطاهرات، ارتضع أفاويق الإصلاح صبيًا، وزُرَّتْ غلائلُه عليه يافعًا، فنبتَت في حجره، ونبتت قوادِمُه في وكره، ورفرفت أجنحته في جوّه، لم يمسَسْه زيغ العقيدة، ولا غشيت عقله سُحُب الخرافات، بل وجد المنهج واضحًا فمشى على سوائه، والأعلام منصوبة فسار على هداها، واللواء معقودًا، فأوى إلى ظله، والطريق معبّدًا فخطا آمنًا من العثار، فما بلغ مبلغَ الرجال إلا وهو صحيحُ العقد في الدين، متينُ الاتصال بالله، مملوءُ القلب بالخوف منه، خاوي الجوامح من الخوف من المخلوق، قويّ الإيمان بالحياة، صحيح النظر في حقائقها، ثابت العزيمة في المزاحمة عليها، ذلق اللسان في المطالبة بها، ناهض الحجّة في الخصومة لأجلها، يأبى أن يكون حظُّه منها الأخسّ الأوكس، أمن بعقله وفكره أن يضلّل في الحياة كما أمن بهما أن يضلّل في الدين.
"وفي الحياة كما في الدين تضليل" (2)
يا شباب الجزائر!
ما قيمة الشباب؟ وإن رقَّت أنداؤه، وتجاوبت أصداؤه، وقُضِيَتْ أوطارُه وغلا من بين أطوار العمر مقدارُه، وتناغت على أفنان الأيام والليالي أطيارُه، وتنفَّست عن مثل روح الربيع أزهاره، وطابت بين انتهاب اللذات واقتطاف المسرّات أصائله وأسحاره.
بل ما قيمة الكهولة؟ وإن استمسك بنيانها، واعتدل ميزانها، وفُرَّت عن التجربة والمراس أسنانها، ووُضعت على قواعد الحكمة والأناة أركانها.
بل ما قيمة المشيب؟ وإن جلّله الوقار بمُلاءته، وطوار الاختبار في عباءته، وامتلأتْ من حكمة الدهور وغرائب العصور حقائبه، ووُصلت بخيوط الشمس، لا بفتائل البُرْسِ جماته وذوائبه.
ما قيمة ذلك كله؟ إذا لم تنفق دقائقه في تحصيل علم، ونصر حقيقة، ونشر لغة، ونفع أمة، وخدمة وطن.
يا شباب الجزائر، هكذا كونوا ... أو لا تكونوا ...
__________
* نشرت في العدد 6 من جريدة «البصائر»، 12 سبتمبر سنة 1947.
- 3 -
أتمثّله كالغصن المَرُوح، مطلولًا بأنداء العروبة، مخضوضر اللّحا والورق مما امتصّ منها، أخضر الجلدة والآثار مما رشح له من أنسابها وأحسابها، كأنّما أنبتته رمال الجزيرة، ولوّحته شمسها، وسقاه سلسالها العذب، وغذّاه نبتها الزكي، فيه مشابه من عدنان تقول إنه من سرّ هاشم أو سُرَّة مخزوم، ومخايلُ من قحطان تقول كأنه ذو سكَن، في السَّكن (1)، أو ذو رضاعة، في قضاعة (2) متقلّبًا في المنجبين والمنجبات، كأنّما ولدته خِندِق (3)، أو نهضت عنه أمّ الكملة (4)، أو حضنته أختُ بني سهم (5)، أو حنَّكته تُماضر (6) الخنساء لعوبًا بأطراف الكلام المشقّق، كأنما وُلد في مكّة، واسترضع في إياد، وربا في مسلنطح البِطاح.
أتمثّله مجتمع الأشدّ على طراوة العود، بعيد المستمرّ على ميعة الشباب، يحمل ما حمّل من خير لأن يد الإسلام طبعته على الخير، ولا يحمل ما حمّل من شر لأنّ طبيعة الإسلام تأبى عليه الشر؛ فتح عينيْه على نور الدين، فإذا الدنيا كلها في عينيه نيّرة مشرقة، وفتح عقله على حقائق الدين، فإذا الدين والكون دالٌّ ومدلول عليه، وإذا هو يفتح بدلالة ذاك مغالق هذا، وفتح فكرَه على عظمة الكون فاهتدى بها إلى عظمة المكوّن، فإذا كلّ شيء في الكون جليل، لأنه من أثر يد الله، وإذا كل شيء فيه قليل، لأنه خاضع لجلال الله، ومن هذه النقطة يبدأ سموّ النفوس السامية وتعاليها، وتهيُّؤها للسعادة في الكون، والسيادة على الكون.
أتمثّله مجتلًى للخِلال العربية التي هي بواكير ثمار الفطرة في سلاستها وسلامتها، كأنّما هو منحدر لانصبابها وقرارة لانسكابها، وكأنما خيط على وفاء السموأل وحاجب (7)، وأشرج على إيثار كعب وحاتم (
، وخُتم على حفاظ جسّاس والحارث (9)، وأغلِق على عزة عوف وعروة (10).
أتمثّله مترقرق البشر إذا حدّث، متهلّل الأسِرَّة إذا حُدّث، مقصورَ اللسان عن اللغو، قصير الخُطى عن المحارم، حتى إذا امتدَّت الأيدي إلى وطنه بالتخوّن، واستطالت الألسنة على دينه بالزراية والتنقص، وتهافتت الأفهام على تاريخه بالقلب والتزوير، وتسابق الغرباء إلى كرائمه باللَّصّ والتدمير، ثار وفار، وجاء بالبرق والرعد، والعاصفة والصاعقة، وملأ الدنيا فعالًا، وكان منه ما يكون من الليث إذا دِيس عَرينه، أو وُسم بالهون عِرْنِينُه.
أتمثّله شديدَ الغيرة، حديدَ الطيرة، يغار لبنت جنسه أن تبور، وهو يملك القدرة على إحصانها، ويغار لماء شبابها أن يغور وهو يستطيع جعله فيّاضًا بالقوة دافقًا بالحياة: ويغار على هواه وعواطفه أن تستأثر بها السِّلع الجليبة، والسحن السليبة، ويغار لعينيه أن تسترقهما الوجوه المطرّاة، والأجسام المعرّاة.
يا شباب الجزائر، هكذا كونوا! ... أو لا تكونوا! ...
__________
1) السكن قبيلة قحطانية.
2) قبيلة يتنازعها قحطان وعدنان، ويقول شاعرهم:
نحن بنو مالك الشيخ الهجان الأزهر
قضاعة بن مالك بن حمير
في النسب المعروف غير المنكر
في الحجر المنقوش تحت المنبر
3) خندق هي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، زوجة إلياس بن مضر بن نزار ابن معد بن عدنان، وأم أولاده، مدركة وإخوانه.
4) أم الكَمَلَة هي فاطمة بنت الخرشب الأنمارية، إحدى منجبات العرب، والكملة أبناؤها الأربعة، وقد سئلت أي بنيك أفضل؟ فقالت: الربيع بل عمار بل قيس بل أنس، ثم قالت: ثكلتهم إن كنت أدري أيهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة لا يُردي أين طرفاها، وأبو الكملة هو زياد بن سفيان بن عبد الله بن ناشب العنسي.
5) تلميح إلى قول ابن الزبعري: ألا لله قوم ولدت أخت بني سهم، وهي ريطة بنت سعيد ابن سهم، وقد أنجبت ثمانية رجال أكبرهم هاشم بن المغيرة جد عمر بن الخطاب لأمه، وكانوا كلهم مزيدًا في مفاخر مخزوم.
6) تماضر بنت عمرو بن الشريد أخت صخر، الخنساء الشاعرة المشهورة، وتحريضها لأولادها على الجهاد وحمدها لله حيث ماتوا كلهم في موقعة واحدة، كل ذلك مفصّل في كتب السير والأدب.
7) السموأل بن عادياء المثل المضروب في الوفاء، وحاجب بن زرارة التميمي مثله وهو الذي رهن قوسه عند كسرى.
كعب بن مامة الإيادي، وحاتم الطائي جوادان مشهوران يًضرب بهما المثل في الكرَم.
9) جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان قاتل كليب والحارث بن عباد، لهما ذكر تدور عليه حرب داحس والغبراء، وأخبار مفصّلة في كتب الأدب.
10) عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، يُعدّ في أولياء العرب وأعزّهم، ولعّزته قابل الملك عمرو بن هند: لاحر بوادي عوف، وعروة بن المنبه بن جعفر بن كلاب الرحّال أو الوفّاد، كان يجير اللطائم للمناذرة ويجير على الحيين بكر وتغلب حتى قتل، وكان قتله سببًا في يوم الفجار بين كنانة وقيس.
* نشرت في العدد 10 من جريدة «البصائر»، 12 أكتوبر سنة 1947.
- 4 -
أتمثّله حنيفًا فيه بقايا جاهلية ... يدّخرها لميقاتها، ويوزّعها على أوقاتها، يردّ بها جهلَ الجاهلين، في زمن تفتّقت علومه عن جاهلية ثانية شرّ من الجاهلية الأولى - وتمخّضت عقولُ أبنائه بوحشية مقتبسة من الغرائز الدنيا للوحش اقتباسًا علميًّا ألبَس الإنسان غير لبوسه، ونقله من قيادة الحيوان إلى الانقياد للحيوانيّة، وأسفرت مدنيَّتُه عن جفاف في العقول، وانتكاس في الأذواق، وقوانينُه عن نصر للرذيلة وانتهاك للحُرُمات، وانتهت الحال ببنيه إلى وثنية جديدة في المال وعبادة غالبية للمال، واستعباد لئيم بالمال.
أتمثّله معتدلَ المزاج الخُلُقي بين الميوعة والجمود، وبين النسك والفتك تتّسع نفسه للعقيق، وعمر وابن أبي عتيق، فيصبو، ولا يكبُو، كما تتّسع للحرم وناسكيه فيصفو ولا يهفو، وتهزُّه مفاخرات الفرزدق في المربد، كما تهزّه مواعظ الحسن في المعبد.
أتمثّله كالدينار يروق منظرًا، وكالسيف يروع مخبرًا، وكالرمح أمدحُ ما يوصف به أن يقال ذابل، ولكن ذاك ذبول الاهتزاز وهذا ذبول الاعتزاز، وكالماء يمرؤ فيكون هناءً يُروي، ويزعق فيكون عناء يُردي، وكالرّاية بين الجيشين تتساقط حولها المُهَج وهي قائمة.
أتمثّله عفّ السرائر، عفّ الظواهر، لو عرضت له الرذيلة في الماء ما شربه، وآثر الموت ظمأ على أن يرد أكدارها، ولو عرضت له في الهواء ما استنشقه، وآثر الموت اختناقًا على أن يتنسَّم أقذارَها.
أتمثّله جديدًا على الدنيا، يرى من شرطها عليه أن يزيد فيها شيئًا جديدًا، مستفادًا فيها، يرى من الوفاء لها أن يكون ذلك الجديد مفيدًا.
أتمثّله مقدّمًا لدينه قبل وطنه، ولوطنه قبل شخصه، يرى الدين جوهرًا، والوطن صدفًا، وهو غوّاص عليهما، يصطادهما معًا، ولكنه يعرف الفرق بين القيمتين، فإن أخطأ في التقدير خسر مرّتين.
أتمثّله واسعَ الآمال، إلى حد الخيال، ولكنه يُزجيها بالأعمال إلى حد الكمال، فإن شُغِفَ بحب وطنه شَغَفَ المشرك بحبّ وثنه، عذره الناس في التخيّل لإذكاء الحبّ، ولم يعذر فيه لتغطية الحقيقة.
أتمثّله مصاولًا لخصومه بالحجاج والإقناع، لا باللجاج والإقذاع، مُرْهبًا لأعدائه بالأعمال، لا بالأقوال.
أتمثله بانيًا للوطنية على خمس، كما بني الدين قبلها على خمس: السباب آفة الشباب، واليأس مفسد للبأس، والآمال لا تدرك بغير الأعمال، والخيال أوّله لذة وآخره خبال، والأوطان لا تخدم باتّباع خطوات الشيطان.
يا شباب الجزائر، ... هكذا كونوا ... أو لا تكونوا.
__________
* نشرت في العدد 11 من جريدة «البصائر» 20 أكتوبر سنة 1947.
ܓܨالشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر ܓܨ
[ من آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي ]
المكتبة الشاملة
آثار الأمام محمد البشير الابراهيمي / الجزء الثالث / ثلاث كتب/الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر
( 3 / 509 - 516 )