ننتقل إلى النقطة الثانية :- لماذا نفكر ؟ أو لماذا التفكير ؟
لأن بعض الناس يرى وهذا حق أن التفكير عملية مجهدة وصعبة ، ويرى أن ترك التفكير فيه راحة البال ، وفيه نوع من السعادة والأنس والانبساط - كما يقول بعض الناس - وكثيراً ما تجد أحياناً من يكون مهموماً أو مغموماً فيأتيه قائل ويقول له : لماذا تفكر ؟ دعها لله - عز وجل - أو لماذا تفكّر أرح نفسك من عناء التفكير .
هذه الدعوات تجعلنا نثير هذا التساؤل ونجيب عليه نقاط أيضاً :-
أولاً : التفكير ضرورة إنسانية
قال أحد المفكرين : " أنا أفكر إذن أنا موجود " ، وانعدام التفكير في الحقيقة إلى حد ما يقرّب من انعدام الوجود فالذي لا يفكّر كأنه أصبح لا عقل له والإنسان ميزته التي ميّزه الله - عز وجل - بها عن سائر المخلوقات هي العقل المفكّر المدبّر الذي جعله الله - عز وجل - كما سيأتي نعمة من أعظم نعمه على الإنسان ليتوصل به إلى أمور وغايات كثيرة نافعة ومفيدة ، فلابد أن ندرك أن التفكير هو أساس هذا الإنسان ، ولا يمكن أن يكون الإنسان إلا مفكراً إلا من ترك التفكير ، وكان هامشياً فهذا - كما قال الرافعي - : " إن لم تزد على الدنيا شيئاً فأنت معناً زائداً عليها " يعني إن لم تزد أنت شيئاً على الدنيا بعملك بتفكيرك ، فأنت في حقيقتك زيادة لا داعي لها ، يمكن أن تحذف وأن تلغى ، ولذلك نعرف دائماً ليست القوة وليس التأثير بالكثرة ، وإنما بالنوعية ، وأعظم شيء في نوعية الإنسان هي عقله المفكّر ، والعقل المفكّر هو أول الأسباب التي يحصل بها العلم ، والعلم هو أول الأسباب التي يستطيع بها أن يلتمس طرائق العمل النافع المفيد ، وحلول المشكلات التي تعترض الإنسان ، فإذن التفكير هو جوهر هذا الإنسان ولذلك لا بد أن نفكّر .
ثانياً : التفكير دعوة قرآنية
فالآيات القرآنية مليئة بالدعوة إلى التفكر والتأمل والتدبر ، و اعمار العقل في مناحي شتى ، والله - عز وجل - قد جعل كتابه الناطق في آيات قرآنية موضعاً للتأمل والتفكر وأيضاً كونه المخلوق موضعاً للتفكر والتدبر فقال - جل وعلا – : { وأنزلنا إليك ذكراً لتبين للناس ما نزل إليهم لعلهم يتفكرون } وقال - جل وعلا - : { كتاب أنزلنا إليك مبارك ليدبروا آياته } ..
{ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } كل ذلك استحثاث للتفكر والتدبر ، ونعي على ترك هذه الخصيصة.
وأيضاً - كما قلت - دعا القرآن إلى التفكّر في الكون كما في قوله - جل وعلا - :
{ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار } فقادهم التفكر إلى حكمة الوجود ، وإلى الإقرار بالصانع الخالق - سبحانه وتعالى - .
فهذه دعوات كثيرة أيضاً يبثّها القرآن لنا في سياق التفكير ، ومنها التفكير في أحوال الأمم الغابرة والسابقة : { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } .
ومنها التفكير في السنن الإلهية الكونية التي بثها الله - عز وجل في القرآن شهد بتطبيقها وحصولها التاريخ والأحداث الجارية فيه كما في قوله عز وجل :
{ إن الله لا يغيروا ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } إلى آخر الآيات الكثيرة التي جاءت في كتاب الله - عز وجل - تدعون إلى التفكير.
ثالثاً : التفكير خطوة علاجية
فعندما تعترض لنا مشكلة ؛ فإننا نسعى إلى علاجها وإلى التخلص منها والسعي لا بد أن يكون سعياً عملياً ولابد أن يسبق العمل تفكير لا يمكن إنسان أن يعمل عملاً إلا وقد ورد عليه في عقله خاطر تأمل فيه قليلاً أو كثيراً ثم عمل فعندما على سبيل المثال حتى في أيسر الأمور عندما تريد أن تكتب قد تختار أن تكتب بالقلم الرصاص أحياناً لماذا ؟ لأنك فكّرت في أن هذه الكتابة قد تحتاج إلى تغيير أو تبديل فتحتاج إلى أن تمحها أو كذا أو تفكر أن تكتب بالقلم الغامق اللون ؛ لأنك تريد أن تبعث هذه الرسالة - مثلاً - على أو عبر جهاز الفاكس هذه الخطوة البسيطة العملية سبقتها أصلاً خطوة سابقة وهي التفكير ، فهو خطوة في طريق العلاج ؛ لأنه خطوة سابقة للعمل ، وعندما نقول : خطوة علاجية ، ينبغي أن نشير إشارة موجزة إلى العلل والأدواء والأمراض التي تعاني منها أمتنا ، نحن لسنا في الوقت المعاصر من الأمم المتقدمة والمتحضرة والمتعلمة ، بل إن نسبة الأميّة في البلاد الإسلامية من أكثر النسب وجوداً في العالم ، وتتراوح هذه النسبة في البلاد الإسلامية من دول العالم الثالث ما بين خمسين إلى ثمانين بالمائة ، ويكفي أن نعرف أن بعض البلاد الإسلامية تصل فيها الأميّة إلى نحو ثمانين بالمائة ، ويمكن أن ترجعوا إلى كتاب الدكتور صبحي الطويل عن مظاهر التخلف في العالم الإسلامي بإحصاء وأرقام ، إذن هذه المشكلات من الأمية والتخلف الحضاري .. التفرق .. وجود الأمراض .. الأنماط السياسية والاجتماعية الخاطئة في حياة الأمة الإسلامية .. كل ذلك يحتاج إلى علاج .. وإذا أردنا أن نأكل ونشرب .. وأن لا نفكر فمعنى ذلك أننا نرضى بالمرض ، ونسمح له بأن يستشري في أجسادنا وفي بيئاتنا ومجتمعاتنا .
رابعاً : التفكير آلية عملية دائمة
فهناك حلول تأتي لبعض المشكلات وتعطي ثماراً جيدة ، لكنها لا تشكّل آلية ذات طابعاً عملي استمراري ، على سبيل المثال قد يكون في مجتمع من المجتمعات افتقار إلى علاج بعض المشكلات التي كان لها أمد طويل فيأتي - على سبيل المثال - من يكون عنده ملكات فردية قوية ، من يكون عنده عقلية متميزة ، فيوجّه أفراد المجتمع ويحركّهم ويقودهم ، ويغيّر فيهم روح الكسل إلى روح النشاط والعمل ، وروح البلادة إلى روح التفكير ، ويغيّر تغييراً إيجابياً ، لكن هذه القيادة الفذّة ، أو هذا التغيير الطارئ إن لم يكن ثابت في صورة منهجية ؛ فإنه غالباً ما ينتهي بانتهاء هذا الفرد المحرّك أو هذه القيادة المتميزة .
أضرب مثالاً آخر - لعله أقرب وأوضح - عندما تحصل بعض الكوارث أو بعض الأسباب التي تحتاج إلى الإغاثة والإعانة كما يحصل مثلاً في السيول أو في الزلازل أو غيرها .. هناك حلول واضح أثرها منها وجود من يضحّي ، ومن يبذل ليعين ويساعد وجود من يتفق ويبذل ويقدم ويحصل من وراء ذلك خير كثير وعلاج جيد إلى حد ما ، لكن هل في كل مرة ننتظر أمثال هؤلاء أو في كل مرة سيكون هؤلاء على قدرة عملية لإيجاد هذه الحلول لهذه المشكلات على سبيل المثال ، في هذا المثال الكوارث والأسباب التي تقع للناس عندما تكون هناك مناطق مهددة مثلاً بالسيول ؛ فإنه لا يكفي مثلاً أن نعتمد على هذه الجهود ، بل التفكير يقودنا إلى أن نأخذ بأسباب دائمة ، فنضع - مثلاً – السدود .. نضع تصريف لهذه المياه .. نفكّر في طرائق عملية ذات طابع استمراري في معالجة المشكلات ، ولذلك التفكير له أهمية في أنه أساس للتغيير الجذري المستمر .
خامساً : التفكير وقاية دفاعية
فهناك كثير من الناس قد أصابهم الإحباط ، وسرى إلى نفوسهم اليأس ، وقال كثير منهم إنه لا أمل في تغيير أحوال الأمة ، وإنّ الصورة التي يرونها سوداء ليس فيها ضياء ، وأن الأمر قد تعقدت وتشابكت بحيث من الصعوبة التي في أذهان البعض تصل إلى المستحيل أنه لا يمكن أن يكون هناك حلول لهذه المشكلات لكن التفكير الذي قلنا إنه يعتمد على المعلومات والخبرات السابقة المنظمة ، ويعتمد على التحليل والتعليل ، ويعتمد بعد ذلك على استغلال هذه الأمور في إيجاد الحلول هو يكشف جوانب كثيرة من الأمل ويبرز بعضاً من الجوانب الإيجابية التي تخفى مع كثرة السلبيات ، ونحن اليوم أكثر احتياجاً إلى الأمل ، وإلى وجود البوادر الإيجابية منا إلى النظر في الأسباب السلبية والمشكلات . كل واحد منا يستطيع أن يلتفت يميناً ويساراً فيعرف أن هناك مشكلات في التعليم ، ومشكلات في الإعلام ، ومشكلات في كذا وكذا و كذا , لكن التفكير المتأني سيكشف لك أن هناك أيضاً إيجابيات جديدة ، وأن هناك عناصر يمكن استغلالها ، وأن هناك بعض البوادر يمكن لو أحسن استخدامها لأوجدت حلولاً ولأوجدت طريقاً يبدأ قليلاً ثم يعظم بإذن الله - عز وجل - وكما سفر الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة وأول الغيث قطر ثم ينهمر ، فهذا التفكير عندما نفكر بمنطقية وموضوعية سيكون هناك عندنا نفسيّة أخرى ندافع فيها عن أنفسنا ، ونسعى إلى تغيير أوضاعنا .