منهج التفكير العقلي في القرآن الكريم
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}
(الحلقة الأولى)
• مدخل في المصطلح والمفهوم
• الانسجام والمواءمة بين الإسلام والعلم
• الحقيقة الإسلامية لا تخشى البحث
• الترحيب بالنقاش المنصف الباحث عن الحقيقة
• مجال البحث العقلي في الإسلام لا يقف عند حدٍّ
• تكريم الإنسان بآلات التعلُّم ومسؤوليَّتُهُ تُجَاهَهَا
• • • • •
مدخل في المصطلح والمفهوم:
العقل لغة: هو الإمساك والاستمساك، وحَبْسَةٌ في الشيء؛ كَـ: عَقَلَ البعيرَ بالعقال، وعَقَلَ الدواءُ البطنَ، وعَقَلَتِ المرأةُ شعرَها، وعَقَلَ لسانَه: كَفَّه[1]، وفي حديث محمود بن الربيع: "عَقَلْتُ من النبي - صلى الله عليه وسلم - مَجَّةً مَجَّهَا في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو"[2] وعرَّفه الأنصاري بالمنع[3].
واصطلاحًا: أوضح تعريفاته، وأقربها إلى هذا السياق أنه: "ما يقع به التمييز، ويمكن الاستدلال به على ما وراء المحسوس"[4]؛ فهذا التعريف روعي فيه الدور الوظيفي للعقل في الاستفادة من معطيات الحواس والبناء عليها؛ لتحصيل العلم بالمجهول.
والعقلي: ما كان منسجمًا مع العقل، متفقًا مع نتائجه، تَقبَله النفس عن قناعة بِحَقِّيَّتِهِ، لاعتماده على مسلمات العقول، وأوليات البدائه.
والبرهان: النظر المفضي بصاحبه إلى عين مطلوبه[5].
الانسجام والمواءمة بين الإسلام والعلم:
استُهِلَّ القرآن الكريم بالأمر بالقراءة، معلنًا بعثة خاتم الأنبياء، المؤيد بالعقل الصريح، المدعوم بالنقل الصحيح؛ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 – 5]، جاء الإسلام ليبعث العقل من سُباته، ويصيح فيه: إن الإنسان لم يُخلق ليُقيد بالأغلال، ولا ليقاد بالزمام، بل فُطِرَ الإنسانُ على أن يَهتدِيَ بالعلم، ويستنير بنور العقل، وآيات الكون، فأطلق الإسلام بهذه الدعوى سلطان العقل من قيوده، وردَّه إلى دوره الذي نِيط به، إنه تصفح كتاب الكون، وتأمل آيات التدبير والإحكام.
ومن لطائف السياق القرآني في مادة العقل أن القرآن الكريم لم يستعمل "العقل" بصيغة الاسم الجامد، وإنما استعمل مشتقاتِهِ الفعليةَ: (تَعْقِلُونَ 23 مرة، يَعْقِلُونَ 22 مرة، عَقَلُوهُ مرة واحدة، يَعْقِلُهَا مرة واحدة، نَعْقِلُ مرة واحدة)، وكل ذلك في سياقات الإشادة بفاعلية العقل البشري في النظر والتدبر، والتمييز بين الأضداد؛ كالحق والباطل، والصحيح والزائف، والخير والشر، والواجب والمستحيل، إن في هذا المسلك القرآني ما يلفت النظر، ويسترعي الانتباه؛ فإن هذا الإغفال للفظ العقل، والاقتصارَ على مشتقاته الفعلية يُلمِح إلى أن القرآن ناظر إلى العقل باعتباره قوة نفسية، ووظيفة حيوية، ينبغي أن تستثمر في محلها، لتؤدي دورها المنوط بها، والذي اعتبره الإسلام حَكَمًا عدلاً، ومرجعًا لا يُخْتَلَفُ في حجيته، ولا يستراب في نتائجه[6].
ومن تأمل نصوص الإسلام؛ الكتاب والسنة، وجد مظاهر احتفاء الإسلام بالعلم ظاهرة باهرة، تنادي بأعلى صوت: هلموا إلى سلطان الحق البالغ، المؤيد ببرهان العقل الدامغ، ومن هذه الظواهر:
- التكليف بشرائع الإسلام متوقف على العقل المميِّز: فالتكليف مرفوع عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ.
- الحث على النظر والتأمل: ورد القرآن الكريم بالأمر بالتعقل والتدبر، وإطلاق عنان تأمل الآيات الكونية، في أكثر من سبعمائة وخمسين آية، في حين أن آيات الأحكام الصريحة لا تزيد على مائة وخمسين آية[7]، ولم يأمر الله – تعالى - عباده في كتابه ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به، أو بشيء مما هو عنده، أو يسلكوا سبيلاً على العمياء وهم لا يشعرون، حتى إنه علل الشرائع والأحكام التي جعلها لهم[8].
ولو تفكرنا قليلاً في القرآن الكريم، ونظرنا فيه نظرة تأمل - ولو عَجْلَى - لم نجد في القرآن الكريم سورة طويلة متفردة بذكر الأحكام، في حين نجد سورًا كثيرة - خصوصًا المكية - ليس فيها إلا المباحث العقلية، وتقرير حقائق الأشياء، والكلام على الفطرة والنواميس الكونية، وخلق العالم، وإثبات الخالق، والحديث عن النفس، والإرادة، والاختيار، وعن الرسالة والوحي، والبعث، والخلود[9].
- الدعاء بطلب زيادة العلم: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وليس في القرآن الكريم أمر بطلب الاستزادة من شيء سوى العلم.
- رفع درجة العلماء: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83]؛ فالحجة التي أوتيها إبراهيم كانت بالعلم، ثم كان هذا العلم سببًا لرفع درجات إبراهيم عليه السلام؛ وتأمل معنى الاستعلاء المستفاد من حرف الجر {عَلَى قَوْمِهِ}، وقال – تعالى -: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
- النهي عن التقليد الجامد: أكد القرآن الكريم في مواضع كثيرة على ذم التقليد بغير علم ولا هُدًى؛ من ذلك: قوله – تعالى -: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، وقوله – تعالى -: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]، ونعى على الكفار أنْ لم تكن لهم حجة إلا اتباع آبائهم: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} [يونس: 78].
- استحباب الرحلة في طلب العلم، ويشير إليها قوله – تعالى -: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، وكذلك إشارة القرآن الكريم إلى رحلة موسى - عليه السلام - إلى الخضر في طلب العلم: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 60 – 62] الآيات، وذِكْر النَّصَب والتعب الذي لاقاه نبي الله موسى في رحلته، فيه إشارة إلى أهمية الرحلة في الطلب، ولو بعدت الشُّقَّة، وطالت الرحلة.
- وجوب الاسترشاد بالعلماء: أمر الله – تعالى - عباده برَدِّ ما أشكل عليهم إلى العلماء الذين لهم القدرة على استنباط أحكام الله؛ فقال: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وقال – تعالى -: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
- يجب على من تولى أمرًا أن يكون عالمًا به وبمصالحه: قال – تعالى - في إمارة طالوت: {قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247]، وقال – تعالى - في تولي يوسف الحكم: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22]، وعلل يوسف - عليه السلام - طلبَ الولاية بما يتصف به من العلم والأمانة؛ فقال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]؛ بل من عادة القرآن الكريم أن يعبر عن النبوة بالعلم؛ ومن ذلك: {قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53]، {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 74]، {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]، وفي موسى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [القصص: 14].
- التعليم شرف لصاحبه حتى للحيوانات: فقد فضل الله الحيوان المعلَّم على غيره؛ فأباح صيد الأول دون الثاني؛ {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4].
ومما ضرب مثلاً للعلاقة بين العقل والنقل، ولبيان أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لا يُتَبَيَّنُ إلا بالعقل أن قيل:
- العقل كالأُسّ، والشرع كالبناء، ولن يغني أسٌّ ما لم يكن بناءٌ، ولن يثبت بناءٌ ما لم يكن أسٌّ.
- العقل كالبصر، والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج، ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر، ولهذا قال الله – تعالى -: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 – 16].
- العقل كالسراج، والشرع كالزيت الذي يمده، فإن لم يكن زيت، لم يحصل السراج، وما لم يكن سراج، لم يضئ الزيت؛ قال الله – تعالى -: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} [النور: 35].
- الشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل، وهما متعاضدان بل متحدان[10].