مسيف وطننا ولازم نتلاو فيه
مفهوم الوطنية في الإسلام
د. بدر بن ناصر البدر
ارتباط الإنسان بوطنه وبلده، مسألة متأصلة في النفس، فهو مسقط الرأس، ومستقر الحياة، ومكان العبادة، ومحل المال والعرض، ومكان الشرف، على أرضيه يحيا، ويعبد ربه، ومن خيراته يعيش، ومن مائه يرتوي، وكرامته من كرامته، وعزته من عزته، به يعرف، وعنه يدافع، والوطن نعمة من الله على الفرد والمجتمع، ومحبة الوطن طبيعة طبع الله النفوس عليها، ولا يخرج الإنسان من وطنه إلا إذا اضطرته أمور للخروج منه، كما حصل لنبينا محمد { عندما أخرجه الذين كفروا من مكة، قال تعالى:
إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا {التوبة: 40}، ولما كان الخروج من الوطن قاسياً على النفس، صعباً عليها، فقد كان من فضائل المهاجرين أنهم ضحوا بأوطانهم في سبيل الله، فللمهاجرين على الأنصار أفضلية ترك الوطن، مما يدل على أن ترك الوطن ليس بالأمر السهل على النفس، وقد مدحهم الله سبحانه على ذلك فقال تعالى:
للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون {الحشر: 8}.
وقد اقترن حب الأرض في القرآن الكريم بحب النفس، قال تعالى:
ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم {النساء: 66}، واقترن في موضع آخر بالدين:
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم {الممتحنة: 8}، كل هذا يدل على تأثير الأرض، وعلى أن طبيعة الإنسان التي طبعه الله عليها حب الوطن والديار، ولكن لهذا الحب حدود يجب ألا يتجاوزها؛ لأن فوق هذا الحب حب آخر أولى منه وأهم، وهو حب العقيدة والدين، فإذا ما تعارض حب الوطن مع الدين وجب حينئذ تقديم الأعلى وهو الدين.
فالأصل في الإنسان أن يحب وطنه ويتشبث بالعيش فيه، ولا يفارقه رغبة عنه، ومع ذلك فإن خرج فلا يعني هذا انقطاع الحنين والحب للوطن، والتعلق بالعودة إليه، قال الغزالي (والبشر يألفون أرضهم على ما بها، ولو كانت قفراً مستوحشاً، وحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هوجم، ويغضب له إذا انتقص، والوطنية بهذا التحديد الطبيعي شيء غير مستغرب... وهذه السعادة بالعيش في الوطن، وتلك الكآبة لتركه مشاعر إنسانية لا غبار عليها ولا اعتراض)(1).
وما أجمل هذين البيتين:
نقِّل فؤادك ما اشتهيت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم من منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل
إذا كان حب الوطن مركوزاً في النفوس متأصلاً فيها، فإن الإسلام بشريعته الغراء جاء ضابطاً لذلك، محدداً مساره كي يسير في الطريق الوسط المعتدل، مبيناً أن ذلك لا يتعارض مع أحكامه وتعاليمه، قال الله تعالى:
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى" عذاب النار وبئس المصير {البقرة: 126}. وقال تعالى:
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام {إبراهيم: 35}.
فقد حكى الله سبحانه وتعالى عن نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم هذا الدعاء بالأمن والرزق، ويتضح من هذا الدعاء ما يفيض به قلب إبراهيم عليه السلام، من حب لمستقر عبادته، وموطن أهله، والدعاء علامة من علامات الحب وتعبير عنه.
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله { إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته - أي أسرع بها -، وإن كانت دابة حركها). قال أبو عبدالله: زاد الحارث ابن عمير عن حميد: (حركها من حبها) أخرجه البخاري.
قال ابن حجر في الفتح: (فيه دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن، والحنين إليه)(2).
عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن الرسول { لما قدم من خيبر حتى إذا أشرفنا على المدينة نظر إلى أحد فقال: "هذا جبل يحبنا ونحبه" متفق عليه(3)، فعندما عاش رسول الله { في المدينة وألفها، وأصبحت موطنه نما في قلبه { حبها، وحب جبل أحد من حبه { لها.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله { لمكة: "ما أطيبك من بلد، وما أحبك إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك"(4). فهو { في مكة يحبها، ويكره الخروج منها، وعندما هاجر إلى المدينة، واستوطنها ألفها، بل كان يدعو الله أن يرزقه حبها، كما في الصحيحين: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد"(5)، فهو { يدعو الله بأن يرزقه حب المدينة أشد من حبه لمكة؛ لاستشعاره بأنها أصحبت بلده ووطنه التي يحن إليها، ويسر عندما يرى معالمها التي تدل على قرب وصوله إليها. ومثلما دعا بحبها فقد دعا لها، كما في الصحيحين: "اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما جعلت بمكة من البركة"(6) وفي مسلم: "اللهم بارك لنا في تمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعا لمكة، ومثله معه"(7)، ومن دعاء إبراهيم عليه السلام لمكة، ودعاء محمد { للمدينة يظهر حبهما لتلك البقعتين المباركتين، واللتين هما موطنهما، وموطن أهليهم، ومستقر عبادتهم.
يختلف مفهوم الوطنية من حيث الأفكار والتوجهات والمذاهب، فالوطنية عند بعضهم تقديس للوطن، بحيث يصير الحب فيه والبغض من أجله، حتى يطغى ذلك على الدين ويقدم عليه، فتحل الرابطة الوطنية محل الرابطة الدينية، ومنهم من ينطلق في مفهومه للوطنية من كونها فكراً ومنهجاً يصادم الشريعة ويعارضها، وفي مقابل هذا وجد من الناس من تجاهل حقوق وطنه عليه وتساهل في التزامها والوفاء بها، بل بلغ الحال ببعضهم إلى النفور من مجرد سماع هذه الكلمة، فضلاً عن معرفة حقوقها وواجباتها.
فالوطنية في الإسلام: محبة الفرد لوطنه وبلده وقيامه بحقوق وطنه المشروعة في الإسلام ووفاؤه بها، وتقوية الرابطة بين أبناء الوطن الواحد وإرشادهم إلى طريق استخدام هذه التقوية في مصالحهم، التي يراها الإسلام فريضة لازمة، قال الله تعالى:
إنما المؤمنون إخوة {الحجرات: 10}، وقال النبي {: "وكونوا عباد الله إخوانا"(
.
والوطنية التي يرفضها الإسلام، هي وطنية الحزبية التي يراد بها تقسيم الأمة إلى طوائف متناحرة، تتباغض وتتضاغن، وتتراشق بالسباب وتترامى بالتهم، ويَكِيد بعضها لبعض، فلا تنصر مظلوماً ولا تغيث ملهوفاً ولا تعين مكروباً، ما دام أنه ليس في حدود وطنها، والنبي { يقول: "مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" متفق عليه(9).
أساس وطنية المسلمين هي العقيدة الإسلامية، والإسلام قد جعل الشعور الوطني بالعقيدة لا بالعصبية الجنسية، وقد حدد هدفه العمل للخير من أجل البشر، فالاعتبار للعقيدة أولاً، بينما هي عند غيرهم ترتبط بالحدود الجغرافية.
ولذلك فحدود الوطن - التي تلزم التضحية في سبيل حريته وخيره - لا تقتصر على حدود قطعة الأرض التي يولد عليها المرء، بل إن الوطن يشمل القطر الخاص أولاً، ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى، ومن ثم يوفق الإسلام بين شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة. لأن الإسلام قد فرضها فريضة لازمة لا مناص فيها: أن يعمل كل إنسان الخير لبلده، وأن يتفانى في خدمته، وأن يقدم أكثر ما يستطيع من الخير للأمة التي يعيش فيها، وأن يقدم في ذلك الأقرب فالأقرب، رحماً وجواراً، حتى إنه لم يُجز أن تُنقل الزكوات أبعد من مسافة القصر - إلا لضرورة - إيثاراً للأقربين بالمعروف، فكل مسلم عليه أن يسد الثغرة التي هو عليها، وأن يخدم الوطن الذي نشأ فيه، ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية، وأعظمهم نفعاً لمواطنيه؛ لأن ذلك مفروض عليه من رب العالمين، وأشد الناس حرصاً على خير وطنه، وتفانياً في خدمة قومه، وهو ينتمي لهذه البلاد العزيزة المباركة، بلاد العزة والمجد والتقدم والرقي.
للوطن حقوق كثيرة على أهله يجب عليهم التزامها والوفاء بها، كالانتماء إليه والفخر به والتكاتف بين أفراده، والعمل من أجل رفعته وعلو قدره، والمحافظة على مرافقه وموارده، والدفاع عنه والنصح لأهله بما فيه صلاحهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة.
علاقة الإسلام بالوطنية قوية ذات أبعاد كثيرة، فحب الإنسان لوطنه معادل وقرين لحب الإنسان الحياة، والإخراج من الديار معادل ومساوٍ للقتل المخرج للإنسان من هذه الحياة.