تمهيد :
ما هو التاريخ ؟
إذا ما حاولنا الإجابة على هذا السؤال سنجد أنفسنا أمام العديد من وجهات النظر للعديد من المؤرخين خصوصا من يعنى منهم بفلسفة التاريخ. ونتيجة لاختلاف وجهات النظر سوف نجد من يقول أن التاريخ هو ” العلم الذي يعنى بالدرجة الأولى بدراسة الحوادث أو الوقائع التي حدثت في الماضي ” أو ” هو العلم الذي يسعى لإقامة تتابع للأحداث التي وقعت بالفعل ” أو ” العلم الذي يختص بترتيب و تضييق السلوك الإنساني عبر الزمن الماضي ” و ثمة من يرى أن التاريخ ” سجل مكتوب للماضي أو الأحداث الماضية “.
و تجد ابن خلدون يعرف التاريخ تقوله : ” التاريخ فت يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم و الأنبياء في سيرهم و الملوك في دولهم حتى تتم فائدة الإقتداء في ذلك لمن يروقه في أحوال الدين و الدنيا .” فعلم التاريخ من هذا المنطلق علم اجتماعي باعتباره محاولة منظمة لمعرفة و تحقيق الحوادث الماضية عن طريق ربط كل واحدة منها بالأخرى و الكشف عن مختلف تأثيراتها على تشكيل و مسيرة الحضارة الإنسانية. لذلك فعلم التاريخ لا يمكن فصله عن المنهج التاريخي. و ذلك باعتبار أن البحث أو التقصي العلمي و وسيلة موضوعية هدفها الوصول إلى نتيجة أو قانون أو قاعدة عامة فيما يسمى بالحقيقة التاريخية.
منهج البحث التاريخي:
و يسمى أيضا المنهج الاستردادي و هو الذي تقوم فيه باسترداد الماضي تبعا لما تركه من أثار. أيا كان نوع هذه الآثار. وهو المنهج المستخدم ي العلوم التاريخية و الأخلاقية. و يعتمد في الأساس على استرداد ما كان في الماضي ليتحقق من مجرى الأحداث. و لتحليل القوى و المشكلات التي صاغت الحاضر.
فمنهج البحث التاريخي هو مجموعة الطرق و التقنيات التي يتبعها الباحث و المؤرخ للوصول إلى الحقيقة التاريخية. و إعادة بناء الماضي بكل وقائعه و زواياه . وكما كان عليه زمانه و مكانه. ويجمع تفاعلات الحياة فيه . وهذه الطرق قابلة دوما للتطور و التكامل مع تطور جموع المعرفة الإنسانية و تكاملها و منهج اكتسابها.
لقد دار جدل واسع حول طبيعة المادة التاريخية. وطرق الوصول إلى الحقيقة العلمية المجردة الثابتة. وكان على المؤرخين إثبات أن التاريخ معرفة علمية دقيقة. غنية بتجربة قرون طويلة. لها منهجا أو طرائق في البحث و الاستقصاء من الحقيقة. لا تقل في علميتها و صحة وسائلها عن مناهج العلوم الأخرى. و هكذا بحث عدد من المؤرخين في طرائق علم التاريخ و أثبتوا في كتبهم و مقالاتهم أن علم التاريخ علم يعود إلى الحقيقة الثابتة المؤكدة. وفي عام 1894 صدر كتاب حول منهج البحث التاريخي. قام بوضعه أرنست برتهام. جمع فيه ما كتب عن المنهج التاريخي. وكان كتابا لنخبة من المثقفين. لا يتضمن طريقة صحيحة في البحث لمن يريد . أما المؤرخ فويتيل دو كولانج فقد قام بتحويل قواعد المنهج التاريخي إلى دساتير ة قوانين دقيقة جدا و كان أول كتاب بسط فيه إلى حد ما منهج البحث التاريخي هو الكتاب الذي ألفه المؤرخان الفرنسيان لانجلوا و سينوبوس في أواخر القرن 19 و يطلق عليه اسم ” مدخل للدراسات التاريخية ” صدر في باريس و ترجم جزء منه إلى العربية .
تتالت الأحداث المشابهة بعد ذلك. لكن في البلاد العربية لم ينبر احد لدراسة هذا الموضوع حتى الربع الثاني من القرن 20. رغم أن المؤرخين العرب أدركوا كثيرا من الأساسيات العلمية لمنهج البحث التاريخي بمضمونها الحديث. و كتبوا فيها. ونموذجهم الأكبر ابن خلدون ( ت. 1406 م ) و الكافجي ( المختصر في علم التاريخ ) ( ت. 1474 ) و غيرهم.
منهج البحث التاريخي عند العرب.
نشأ علم التاريخ عند المسلمين فرعا من علم الحديث. و قد سعوا إلى المصادر الموثوقة و كذا الرواية الشفوية. و اهتم مؤرخوهم بالمكان فمزجوا بين التاريخ و الجغرافيا مثل المسعودي. و ابن النديم. ومن ثم اعتمدوا على الوثائق الرسمية في مدوناتهم مثل اليعقوبي و البلاذري و الطبري و بن الجوزي و غيرهم… لقد عمل المؤرخون على بيان مظانهم في مقدمات كتبهم أو في طليعة روايتهم للخبر. وفي القرون الأولى للتدوين التاريخي استخدموا الإسناد كما في الحديث. و بذلك كانوا أمناء في نقل الأخبار. ويلاحظ هذا بخاصة عند الطبري..
أما النقد التاريخي عند العرب فقد بينه القران الكريم في آيات كثيرة في ضرورة إعمال العقل فيما يرى الإنسان و يسمع. وأكد على مفهوم البينة و الحجة و البرهان..ووجوب التثبت مت الخبر . وكلها أمور توجه الفكر إلى النقد العقلاني للأمور. وقد نبه الرسول (ص) في أحاديثه إلى ضرورة تبين الصدق من الكذب. أي نقد ما يرى و يسمع. ومن ثم أوجد علماء الحديث تدريجيا أصولا نقدية للتمييز بين الصحيح و الموضوع من الأحاديث. و لتصنيفها حسب قربها من الحقيقة. و اتبع المؤرخون العرب تلك الأصول للتحقق من صحة الخبر أيضا. فالأسلوب النقدي الذي صاروا عليه و اقتدوا فيه بعلماء الحديث كان ” التجريح و التعديل ” هذا النهج هو في حقيقة المنهجية العلمية المعاصرة للبحث التاريخي: النقد الباطني السلبي أم ما يسمى بنقد المؤلف. وقد اتخذوا الموازنة الزمنية بين خبرين. و الموازنة بصفة عامة. بحيث استطاعوا بهذا النمط من الموازنة و المحاكمة الزمنية التاريخية أن ينقدوا ما يدعى بأنه وثائق و يظهروا زيفها. وقد حاول المؤرخين العرب ضبط الأحداث زمنا بواسطة التوقيت لها بالسنة و الشهر و الليلة. وبذلك فاقوا مؤرخي اليونان و الرومان و أوربا في العصور الوسطى. فقد قال المؤرخ الإنجليزي ” بكل – buchle ” إن التوقيت عل هذا النحو لم يعرف في أوربا قبل 1597 .” وقد أبدى المؤرخون العرب اهتماما فائقا بتحديد الزمن في الأخبار. ويتضح هذا من تعريفهم للتاريخ بأنه ” الإنسان و الزمان ” وأنه ” الزمان و أحواله ” ولكن جميع الأحداث في سلسلة زمنية. هي خطوة أولى في عملية التركيب التاريخي. إلا أنها ليست لبها. فالتركيب الحقيقي يقوم على ربط الأحداث ببعضها ربطا سببيا. وهذا ما عناه ابن خلدون في معرض حديثه عن التاريخ بأنه ” هو في ظاهره لا يزيد على أخبار الأيام و الدول… وفي باطنه نظر و تحقيق و تعليل الكائنات و مبادئها دقيق. وعلم بكيفيات الوقائع و أسبابها عميق “.
وقد اتهم المؤرخون العرب بعدم سعيهم إلى التعليل. بل اكتفوا بالسرد. ويتفاوت المؤرخون العرب في تقصيهم للأسباب في تفسير الظواهر و الحوادث. إلى أنهم أدركوا بالمجموع أهمية العوامل الاقتصادية و الجغرافية في دفع الأحداث. وفي التأثير على حياة البشر. وكذلك العوامل النفسية و الاجتماعية و الفكرية. وندري جدا من المؤرخين من كان كتابه مجرد سرد ساذج لا يحمل ضمن التطور تأويله الخاص و تفسيره الذاتي. كما لم يكتف المؤرخون المسلمون بتتبع أسباب الحوادث فقط. بل سعوا لتكوين تركيب فلسفي لمعنى التاريخ.
من كل هذا نخلص إلى القول: أن منهج البحث التاريخي عند المؤرخين العرب يسجل لهم أنهم أول من ضبط الحوادث بالإسناد. و التوقيت الكامل. و أنهم مدوا حدود البحث التاريخي و نوعوا التأليف فيه و أكثروه. إلى درجة لم يلحق بهم فيها من تقدمهم أو عاصرهم من مؤرخي الأمم الأخرى. و أنهم أول من كتب فلسفة التاريخ. وأنهم حرصوا على العمل جهد طاقتهم بأول واجب المؤرخ و أخره. وهو ” الصدق في القول و النزاهة في الحكم ” وبذلك يكون المؤرخون العرب هم الذين وضعوا الأصول الأولى لمنهج البحث التاريخي العلمي الحديث الذي بدأ ناضجا في أوربا في القرن 19. وهم الذين تركوا بتلك الأصول أثرهم في مؤرخي أوربا في مطلع العصور الحديثة الذين شرعوا بدورهم ينتهجون في الكتابة التاريخية طريق النقد و التمحيص و التدقيق.
خواص المنهج التاريخي و مميزاته باعتباره منهجا للنقد الأدبي.
يمكننا أن نتبين مميزات هذا المنهج التي تعتبر متداخلة في حد ذاتها بالعديد من المناهج الأخرى. شأنها في ذلك شأن انفتاح العلوم ببعضها على بعض. وتداخلها مع حركة الوعي الإنساني الذي صاحب معطيات التفكير في كل العصور. ولعل أبرز هذه المميزات باعتبار المنهج التاريخي منهجا للنقد الأدبي:
1 / المنهج التاريخي في النقد. شأن أي منهج حساس. إذا فقد فيه صاحبه توازنه. فقد خصائص نقده. وصار مؤرخا أو جماعة للتاريخ. وصار النقد الأدبي لديه مادة للتاريخ. ولم يصر التاريخ مادة للنقد.
2 / المنهج التاريخي منهج يحاول أن يبلور العلاقات الموجودة بين الأعمال الأدبية في إطار تاريخي – زمني (أي في طار وعي بحركة التاريخ) وهو بذلك يتعامل مع الأدب من الخارج.
3 / تبعا لذلك فالمنهج التاريخي يحتاج إلى ثقافة واعية و تتبع دقيق بحركة الزمن وما فيه من معطيات يمكنها أن تنعكس في صورة مباشرة أو غير مباشرة و على النص الأدبي ولعل عنايته أحيانا بالطابع التحليلي يبرز مظهر ذلك الوعي. فالناقد التاريخي قد يلتفت إلى النص الأدبي و يحلله في إطار إحصائي أو بياني أو حتى جمالي. ليصل في النهاية إلى هدفه و غايته. وهي محاولة الربط بين استخدام تلك المقاييس اللغوية. ( التحليلية ) و بين العصر الذي ولدت فيه و بين المؤلف الذي تأثر بذلك العصر فاستخدم تلك المصطلحات اللغوية و لهذا نجد المنهج التاريخي منهجا مرتبطا ارتباطا وثيقا بالمناهج النقدية. ( أخرى على الأقل من هذا الإطار )
4 / المنهج التاريخي معني بمستويات النقد و أطره لذا فهي تستخدم كل مراحله الممثلة في التفسير والتأويل و التنقيح و الحكم. نظرا لعنايته الجادة بالنص كرؤية واقعية ترتبط بالزمن و العصر و البيئة. ويلعب المؤلف دوره المحلل في ضوء تلك المراحل التي لا غنى عنها في العملية النقدية.
5/ يظهر منهج التاريخ الأدبي و كأنه ولاية خاصة في حقل التاريخ. أي انه يذكر الماضي من اجل الحاضر. ويحيي العلاقة التي غالبا ما تكون عاطفية مع كبار القدماء الذين سبقوه. فهو بالطبع يحصر حقل أبحاثه في ميدان الأدب محددا علاقاته بكافة الأطر الاقتصادية و السياسية و الثقافية. لتبيان ما فيها من عوارض و إشارات تنم من عقلية نقدية ما.
6/ المنهج التاريخي يختص بالتوفيق في الأعمال القديمة من حيث ذكرها و حفظها وترتيب ظواهرها في سياق التسلسل التاريخي التي يتكون منها حياة الأدباء و إنتاجهم و الجمهور و العلاقات بين الكاتب و مستهلك الكتاب. ويقدم التفسيرات حول هذه الأشياء. وعلى مستوى أعمق يحاول شرحها وحتى إحيائها من خلال المقتطفات. أو يقوم أمام تراكم الوقائع بإطلاق المعايير و القواعد التي تحكم بيئة الأدباء وسيرتهم الذاتية.
7/ وعلى مستوى ضيق. فان المنهج التاريخي يتتبع الأعمال الأدبية من حيث إقرار النصوص و الوقائع و الأحداث فيها. فهو يدرس المخطوطات. ويقارن الطبقات. ويدقق في التصويب النهائي للنص بالإضافة إلى دراسة تكوينات الوقائع الاجتماعية المتعلقة بسيرة الكاتب الذاتية.
هذه أهم الملامح التي تميز المنهج التاريخي. وتحدد خصائصه. ولا شك فان معطياته قد لا تعطي كل الثمار المرجوة في الحركة النقدية. فهو منهج قديم. أهم يعيبه دراسة النص من الخارج. والوقوف على المغزى الواقعي الذي قد لا يكشف لنا أحيانا رؤى النص المتمثلة في التحليل و الخيال و البعد المثالي. الذي تفضيه مشاعر المؤلف ( المبدع ).
و الروح النقدية التاريخية فيها من السهولة ما يجعلها مستهدفة من قبل بعض النقاد الذين يملكون قدرة البحث و التقصي. فتكون متعتهم بارزة هي هذا المجال. وهي خاصية تنبعث من رؤى هذا المنهج الذي أكثر ما يميزه ثقافة مؤلفه التي يدججها معلم الواقعية الحصينة في فهم الأشياء عليها.
فالمنهج النقدي – التاريخي من ظل هذا يهدف إلى تحقيق منطق الزمن الذي يعايشه من خلال النص. فيرى فيه المتعة في البحث و التقصي و إيجاد العلاقات الواقعية في إطار هذا المغزى.
ويعد طه حسين أبرز من استخدم هذا المنهج في دراساته عن الأدب العربي القديم. مثل كتابه ” حديث الأربعاء ” و ” تجديد ذكرى أبي علاء “. ففي الكتاب الأخير طبق طه حسين المنهج التاريخي تطبيقا دقيقا. فقد خصص بابا ما هذا الكتاب ( حوالي ثلث الكتاب ) درس فيه زمن أبي العلاء ومكانه و شعبه و الحياة السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الدينية في عصره. وقبيلته و أسرته. ليرى أثر ذلك كله في شعره و أدبه.
الهدف من البحث التاريخي.
إن الهدف من البحث التاريخي هو صنع معرفة علمية من الماضي الإنساني. ونعني بالعلمية أنها تستند إلى طرائق عقلانية توصل إلى الحقيقة بقدر ما تسمح به الظروف التي تخضع لها. وهي ظروف تقنية. ” طبيعة الوثائق المستخدمة و وجودها ” وظروف منطقية ” تلك التي تحللها نظرية المعرفة “