(الهدف من البحث التاريخي.
إن الهدف من البحث التاريخي هو صنع معرفة علمية من الماضي الإنساني. ونعني بالعلمية أنها تستند إلى طرائق عقلانية توصل إلى الحقيقة بقدر ما تسمح به الظروف التي تخضع لها. وهي ظروف تقنية. ” طبيعة الوثائق المستخدمة و وجودها ” وظروف منطقية ” تلك التي تحللها نظرية المعرفة “
1/ مراحل البحث العلمي في المنهج التاريخي :
1- اختيار الموضوع.
2- تقميش المصادر.
3- النقد.
4- التركيب.
5- إنشاء الموضوع. وبدوره ينقسم إلى:
1 - اختيار المشكلة.
2 - جمع الحقائق و الوثائق و تدوينها.
3 - نقد الوقائع و الحقائق.
4 - صياغة الفرضيات التي تفسر الأحداث و اختيارها.
5 - تفسير نتائج البحث وكتابة تقرير عنه.
- المرحلة الأولى: اختيار موضوع البحث.
إن الأصول العامة لاختيار موضوع المشكلة المراد بحثها واحدة في كل المناهج التاريخية. منها الوصفي و التجريبي. ويعني اختيار المشكلة اختيار موضوع البحث. أي طرح مشكلة تتعلق بالماضي. يكون لها أهمية واقعية وجودية. و الباحث الأصيل هو الذي يعرف كيف يختار المشكلة الحقيقية.
إن المشكلة المطروحة يجب أن تنطلق من المبادرة الذاتية للباحث التاريخي. وتنبثق من فصوله العلمي الخاص. وأن تكون المشكلة بقدر طاقة الباحث على العمل و مدى قدرته على الحصول على الأصول الضرورية. وأن يكون هذا الأصل قادرا على تقديم ما يوضح المشكلة و يحلها. وأن تكون المشكلة بعيدة ما لا يقل عن خمسين سنة من ومن الباحث. وقد يدفع الباحث للمشلكة دفعا. نتيجة الصدفة. وهذا كثير في التاريخ القديم. حيث الوثائق نادرة.
عند تعيين الباحث لمشكلة بحثه. يكون في أحد الوضعين: إما أن المشكلة انبثقت في ذهنه و اتضحت إحداها. وعندئذ يتم تحديدها. أو يكون خالي الذهن عنها أو أن الغموض يكتنفها في فكرة. حينئذ يلجأ إلى القراءة و المطالعة ليكون خافية ثقافية. يحدد عليها موقع المشكلة و يقوم ببحث عام أولي عن مصدر المشكلة. ويلجأ بالاستفسار ممن لهم خلفية عن هذه المشكلة. ومن ثم يضع مخططا للنقاط. وبهذا يتكون هيكل الموضوع و عنوانه.
- المرحلة الثانية: جمع الحقائق و الوثائق و تدوينها.
إن وسيلة الإجابة عن المشكلة هي جمع المصادر و هي أهم أعمال المؤرخ. لأن التاريخ يصنع بالوثائق. وحيث لا وثائق لا تاريخ.
و التاريخ يصنع بالوثائق المكتوبة إذا وجدت. وقد حاول المؤرخون تطبيق الوثائق ضمن رمزين: المرويات المأثورة. والمخلفات المحسومة.
وقال آخرون بتقسيم البحث إلى أولي و أصولي. أو مصادر فقه. وقد تجمع المصادر معلومات أولية و ثانوية. وبشكل عام يمكن تطبيق المصادر أو الوثائق إلى:
- 1 الوثائق المكتوبة أو المطبوعة.
- 2 الوثائق الأخرى.
- 3 الرواية الشعرية المباشرة.
المرحلة الثالثة: نقد الوقائع و الحقائق.
يطلق على عملية التحليل المفصل للاستدلالات التي تقود من ملاحظة الوثائق إلى معرفة الوقائع. و الوقائع اسم النقد. وهي عملية فكرية تراجعية. نقطة الانطلاق فيها الوثيقة. ونقطة الهدف الواقعة التاريخية. وبينهما سلسلة من الاستدلالات. تكون فيها فرص الخطأ عديدة. لأن مصادر المعلومات في معظمها مصادر غير مباشرة. تتراوح بين شهادات للأشخاص الذين حصروا الحوادث أو الدين سمعوا عنه أو كتبوا عنه. وبين الآثار و السجلات و الوثائق التي تركها. و حيث لن هده الوثائق معرضة للتلف و للتزوير بسسب قدمها.كما أن كاتبها معرض للنسيان أو التزوير. بهذا نطرح تساؤلات حول مدى موضوعية الوثيقة ومدى تطابق معلوماتها مع معلومات وثائق أخرى.
إن ما ذكرناه من حيث نقد الوثائق. يعود بنا إلى نقد مصادر الخبر من حيث معرفة سلامتها أو زيفها. و الأسباب التي تدعوا إلى التحريف و التشويه و الخطأ المتعمد فيها و غير المتعمد كان معروفا منذ القدم. وقد برع المسلمون في ميدانه عندما نقدوا الحديث والخبر. ووضعوا له قواعد صارمة. وقد اقتبس الأوربيون في العصور الحديثة كثيرا من أصوله. و أوثقوا به من القرن الخامس عشر حتى الوقت الحاضر. حيث يمكن القول انه احتفظ بإطاره الأساسي التقليدي الذي حدده في عمليتين رئيسيتين هما: النقد الخارجي و النقد الداخلي. و في كليهما على الباحث أن تكون قراءته فاحصة متأنية. تتناول شخصية المؤلف. أو الكاتب. كما تتناول الوثيقة شكلا و مضمونا بحيث تخرج على أسس صحيحة محكمة من التحقيق العلمي.
أ – النقد الخارجي: يتناول فيه الباحث للوثيقة هوية الوثيقة و أصالة الوثيقة. أي صدق الوثيقة أو عدمه ( إثبات صحة الأصل ) وكذلك تحديد مصدر الوثيقة. زمانها و مكانها. هل هي الأصل أم منسوخة عنه و أشياء أخرى.
ب – يتناول مدى دقة الحقائق التي أوردها صاحب الأصل. و إخلاصه الموضوعية فيها. ويعنى هذا التحليل بشخصية المؤلف و ظروفه. ومدى صحة ما أورد من حوادث. أي إثبات الحوادث التاريخية. ويرتبط ذلك ارتباطا كبيرا بتقويمها أي بمدى فهمها و شرحها. ويتعلق ذلك بشخصية الباحث التاريخي وخيالي المبدع. وثقافته الواسعة وقوة ملاحظاه و مقدماته. وكل هذا يوضح لنا التعقيد الشديد للتحليل أو النقد التاريخي.
المرحلة الرابعة: التركيب التاريخي.
أعطانا النقد التاريخي ما نسميه بحقائق التاريخ بشكل مبعثر متفرق و مجرد. ولابد لهذه الحقائق أن تنظم و يتم الربط بينها. بفرضية تعلل الحادث و تبين مجرياته. وتعلل أسبابه و تحدد نتائجه.
وتتضمن عملية التركيب التاريخي عمليات مترابطة متداخلة مع بعضها تكون صورة فكرية واضحة لكل حقيقة من الحقائق المجمعة لدى الباحث.
-1 قيام الباحث بتكوين صورة فكرية واضحة لكل حقيقة من الحقائق المتجمعة لديه و للهيكل العام لمجموع بحثه. أي يكون صورة عن واقع الماضي تنشئها مخيلة الباحث من منطلق مشابهة الماضي الإنساني للحاضر.
- 2 تصنيف الحقائق بحسب طبيعتها الداخلية. وقد ظهر مؤخرا و ببطء. نشأ أولا خارج حدود التاريخ بخاصة الموضوعات التي تعالج حوادث إنسانية. واجمع الحقائق الاقتصادية مع بعضها. وهو نفس الشيء مع الفكرية الاجتماعية و السياسية.
-3 يملك المؤرخ المحاكمة أو ما يسمى ملء الفجوات و الثغرات التي يجدها الباحث في هيكل التصنيف. لأنه لا يستطيع ملء هذه الثغرات بالملاحظة المباشرة إسوة بالباحثين في العلوم الطبيعية. وهناك طريقتان في هذا الشأن: الأولى الطريقة السلبية. و الثانية الطريقة الايجابية.
- 4 ربط الحقائق التاريخية ببعضها أو البحث عن علاقات قائمة بينها.
المرحلة الخامسة: إنشاء البحث التاريخي.
من خلال ما قام به الباحث التاريخي من إجراءات توصل إلى مجموعة كبيرة من الحقائق في هيكل تصنيفي معين. و في سيق تحليلي محدد. وعمله لا يكتمل إلى بالتدوين. ويميز النقاد التاريخيون في هذه الخطوة بين عمليتين هماك عملية الصياغة. وعملية العرض.
أ – الصياغة التاريخية: و هي أخر العمليات التركيبية. يسعى فيها المؤرخ للتعبير عن نتائج بحثه. و هي في العلوم الأخرى الدساتير والقوانين التي تأخذ في بعض العلوم. أما في التاريخ فالصياغة وصفية دقيقة موجزة. وهنا يصطدم المؤرخ بمشكلة وهي: - ماهو المهم ؟ - من الحقائق التاريخية. وفي أغلب الأحيان تستمد الحقيقة أهميتها م علاقتها ببيئة المؤلف و عصره و بهدفه أو أهدافه في كتابة التاريخ.
ب – العرض التاريخي: وهو إخراج الموضوع وحدة كاملة متماسكة الأطراف بحيث يكون إحياء الماضي يتحسسه الباحث القارىء. وهذه الخطوة هامة و عسيرة و يتبين في العرض أمران رئيسان: أولهما إتباع الباحث مخططا واضحا. و ثانيهما استخدام الباحث أسلوبا كتابيا ملائما و العمليتان متكاملتان.
المرحلة السادسة: تقويم منهج البحث التاريخي.
دار نقاش حاد و جدل بين المؤرخين و العلماء حول موضوع المنهج العلمي للبحث التاريخي و أيضا بين بعض المناطقة و الفلاسفة في القرن 19. و ما زال مستمرا حين الآن. لقد دار الجدل حول طبيعة المادة التاريخية و طرائق الوصول إلى الحقيقة العلمية المجردة و الثابتة. وتعرض فيما يلي وجهة النظر:
1 - لقد أنكر كثير من العلماء الطبيعيين و المناطقة على المعرفة التاريخية علميتها ( الوضعية ) وحجة حقائقها و ثبوتها بحجة عدم امكان إخضاعها لطرائق العلم الوصفي الحديث المعتمد على الملاحظة المباشرة و التجربة و استنباط القوانين وحتميتها.
2 – لا يمكن ملاحظة جميع أحداث التاريخ المعاصر بنزاهة و استيعاب و تجرد . فهي تحدث مرة واحدة في زمانها و مكانها. وقد تجري بشكل مفاجئ و في ساحات متعددة مما يصعب معه الاحاطة بها بالملاحظة المباشرة. و بهذا فمن الأحرى أن يصعب الاحاطة بالأحداث التي مضت.
3 – التاريخ لا يعيد نفسه تماما وعنصر الصدفة قد يبتر أي محاولة لاستشفاف المستقبل و التنبؤ بالحدث قبل وقوعه. بهذا يقول البعض إن التاريخ مجموعة أقاصيص كاذبة أو صادقة. و أخرون يقولون أن التاريخ نوع ممتع من الآداب و قد أكد رجال الأدب أن التاريخ فن مكن الفنون وليس علما من العلوم. ويرى آخرون أن التاريخ أخطر إنتاج صنعته كيمياء الفكر.
4 – إن مصدر الباحث التاريخي في المعرفة لا يعتمد على الملاحظة المباشرة و مصادره غير مباشرة. من مثل: الآثار و المجلات. أو الأشخاص. وقد يشك في قدرتهم على الاحتفاظ بالحقيقة بعد مرور فترة زمنية عليها كما أن الباحث التاريخي لا يستطيع أن يصل إلى كل الحقائق المتصلة بمشكل بحثه. قد لا يستطيع الكشف عن كل الأدلة و اختبارها. كما فان المعرفة التي يتوصل إليها جزئية و ليست كاملة.
5 – على الرغم من أن غرض العلم هو التنبؤ فان الباحث التاريخي لا يستطيع دائما أن يعمم على أساس الأحداث السابقة. لان هذه الأحداث كانت غالبا غير مخططة. أو أنها لم تتطور كما هو مخطط لها. فهناك عوامل أخرى لا يمكن التحكم فيها. كما أن تأثيرا واحدا أو لعدد من الأشخاص كان حاسما. وعلى ذلك فان النموذج نفسه بما يشمل من عوامل لن يتكرر.
6 – يعاني المنهج التاريخي كأسلوب علمي من تعرض بعض الأحداث للتلف أو التزوير مما يحد من عطاء المعرفة الكاملة حول جوابي الحياة. وظاهرتها في الماضي ويجعلها معرفة جزئية.
7 – يصعب تطبيق المنهجية العلمية لتغير الأحداث التاريخية. بالإضافة إلى صعوبة اخصاع الحدث التاريخي للتجربة. وما يلاحظ صعوبة وضع فرضيات مبنية على أساس نظرية قوية للأحداث التاريخية. لان علاقة السبب بالنتيجة في تحديد مسار الأحداث التاريخية لا يمكن تطورها بشكل دقيق لتعدد الأسباب عن الإلمام الكافي بالمادة التاريخية. ومن مصادرها الأولية أو الثانوية. مما يوجد صعوبات لدى التحقق من الفرضيات و عليه من الصعوبة بمكان الوصول إلى نتائج يمكن تعميمها حسب هذا المنهج.
8– و يشار إلى الملاحظات و هي أن الباحث التاريخي لا يخضع للتجريب كما انه يصعب الوصول إلى نتائج تصلح للتعميم لصعوبة تكرار الظروف التي وجدت فيها الظاهرة المدروسة. لهذا كانت الحقائق التي يتم التوصل إليها من خلال المنهج التاريخي غير دقيقة بمعايير البحث العلمي. يرى آخرون أن كل ما ذكر لا يحول دون الاعتماد على المنهج التاريخي منهجا علميا لتوافر معظم مقوماته كمنهج لإجراء بحث علمي و ذلك من خلال ما يلي:
أ – إن البحث التاريخي يعتمد المنهج العلمي في البحث. فالباحث يبدأ بالشعور بالمشكلة و تحديدها ووضع الفروض المناسبة و جمع المعلومات و البيانات لاختيار الفروض و الوصول إلى النتائج و التعميمات. كما أن رجوع الباحث إلى الأدلة غير المباشرة من خلال رجوعه إلى السجلات و الآثار و الأشخاص الذين عاشوا الأحداث أو كتبوا عنها. لا يعتبر نقطة ضعف في البحث التاريخي إذا اخضع الباحث معلوماته و بياناته للتقدير و التحليل و التمحيص.
ب – إن التجريب هو جوهر الطريقة العلمية و الفاحص الناقد للمصادر هو التجريب في الطريقة التاريخية. كذلك مسألة الفروض و النظرية و التعميم ( ونؤكد أن اكبر نتائج البحث فائدة و دلالة تكون في التعميمات و المبادئ المستمدة من البيانات و المعلومة الحقيقية و البحث التاريخي و الوثائقي ) من هذه الناحية قد أدى إلى تعميمات و فروض كثيرة. و الباحثون في العلوم الإنسانية بصورة عامة يدركون و يلاحظون الفروض أو تغييرات الأحداث التاريخية خلال فترو معينة. بخاصة فيما يتعلق بالتصرف على كيفية و سبب وقوع هذه الأحداث. ومن الواضح أن كل واحدة من التغييرات تمثل تعميمات موضوعة بحرص و عناية معتمدة البيانات الحقيقية المستمدة من تحليل الوثائق. أي استخدام الأسلوب الوثائقي ( التاريخي ) يتضمن أكثر من مجرد تجمع الحقائق.
إن الباحث التاريخي يخضع دليله بشدة التحليل النقدي للتعرف على أصالته و صدقه و عندما يقرأ نتائجه فأنه يستخدم قواعد الاحتمالات المتشابهة لتلك التي يستخدمها علماء الطبيعة.
ج – إذا كان العالم الطبيعي لا يستطيع التحكم في المتغيرات بصورة مباشرة و بالتي فان مصادر المعرفة للنقد الخارجي و الداخلي. يتصل الأول بأصالة الوثيقة. ويتعلق الثاني بمعناها و درجة اتصالها بالحقيقة مما أشرنا إليه في موضع أخر.
د – إن المعرفة التاريخية معرفة جزئية أكثر منها كلية. ولكن هذا لا يمنع من أننا نتبع فيها كل الطرائق العلمية و نتخذ فيها كل الاحتياطيات الموضوعية. و مادامت طبيعة الحادثة التاريخية مختلفة عن طبيعة الحادثة الطبيعية فلا تستطيع أن تطالب الباحث المؤرخ بقوانين تشبه قوانين الطبيعة. إن الأسباب في الحادثة التاريخية أكثر عددا و اشد تعقيدا و لذلك ففروضه أكثر واشد غموضا و تعميماته اقل دقة و موضوعية.
و يبقى المنهج التاريخي علميا و ضروريا لدراسة نوع من الحوادث و مادام الباحث يبحث عن الحقيقة. فلا بد أن يتبع المنهج التاريخي في سبيل الوصول إلى الحقيقة التاريخية.
أهم ما ألف في المنهج التاريخي:
-1مقدمة في مناهج البحث التاريخي و العلوم المساعدة. و تحقيق المخطوطات بين النظرية
و التطبيق للدكتور حمان خلاف.
-2مناهج البحث التاريخي بين الماضي و الحاضر للدكتور مصطفى أبو حنيف أحمد.
- 3 مقدمة في البحث الاجتماعي للدكتور علي.
- 4علم الاجتماع و العلوم الاجتماعية. علاقات و مجالات و ميادين. لصلاح مصطفى التوال.
-5 مناهج في البحث في علمي التاريخ و السياسة. لشيخة البنراوي.
-6مناهج البحث في التربية و علم النفس للدكتور أحمد عاظم.
-7 منهجية ابن خلدون التاريخية للدكتور محمد الطالبي.
-8منهج البحث التاريخي للدكتور حسن عثمان.
-9محاضرات في البحث التربوي. للدكتور عبد الغني النوري