المتأمل في واقعنا التنموي الذي يتطلع للتحديث والتنمية بمفهومها الشامل، وصولاً إلى مستوى التأثير في خيارات الإنسان وتوجهاته وفي سلوكه بشكل إيجابي.. ربما وجد أن ثمة حلقات مفقودة وغير مدروسة، ويترتب على غيابها أداء سيىء في مجتمع يتغنى بالتنمية والحداثة والمعاصرة... ولكنه يتراجع في الأداء وفي السلوك وفي الخيارات التي تعبر عن تلك المعطيات التي لا تأتي إلا عبر شروطها الحقيقة لا المتوهمة.
نتحدث عن تنمية العنصر البشري، لكن هذه التنمية تتوقف عند حدود البحث له عن شروط وظيفة تتطلب تدريباً فنياً أو تقنياً من نوع ما. نتحدث عن شروط التقدم والنهضة ونحاول أن نرسم لها عناوين اقتصادية أو مشروعات باهظة الكلفة أو معاهد ومراكز متميزة.. لكن ثمة حلقة مفقودة نتجر آثارها بلا وعي بفقدها أو تحسس مصيبة فقدها. نتحدث عن الإرهاب والتطرف ونحاول أن نواجهه بوسائل تفيد في لجم انتشاره أو محاصرة آثاره.. لكن تغيب تلك الحلقة التي تعين على اكتشاف ان أول حصون مقاومة التطرف هي تأسيس ذهني قائم على شروط التفكير العلمي.
هل نحتاج إعادة صياغة عقلنا الاجتماعي وفق شروط التفكير العلمي؟ الإجابة في نظري نعم، ولو فعلنا لوفرنا على أنفسنا كثيراً من العناء في تقصي ظواهر حلولها تكمن في تلافيف ذلك العقل الذي تغيب عنه فعلاً برمجة خاصة ونسق خاص لا يمكن أن يعمل بكفاءة بدونه.
ماذا يعني التفكير العلمي هنا. انه التفكير الموضوعي المجرد الشامل القائم على الدليل والبرهان والمنطق السليم والإيمان بمبدأ السببية وتدبر النتائج والآثار. هذا التفكير العلمي هو ابن شرعي للمنهج العلمي الذي كان للعرب نصيب في اكتشافه لكنهم ضلوا طريق تعميقه والاستفادة من مسالكه وطرائقه.. والتقفه الغرب وعمق آثاره ورسخ منهجيته، وجعله أساس مشروعه في الحداثة والنهضة التي شهد عالمه بواكيرها منذ نهايات القرن الثامن عشر الميلادي. والمنهج العلمي منهج حضاري لا يعتمد على سعة المعلومات ولا كميتها بل يقوم على تفكير مؤسس معتمد على البرهان والتدليل والتجريب والاستقراء والاستنباط والملاحظة والمقارنة والحقائق الموضوعية. انه المنهج الرديف لحياة تضمن التصرف العقلاني الرشيد. وهو منهج وإن توفر في قاعات البحث ومعامل ومختبرات الباحثين.. إلا ان سمته تغيب بشدة عن عقل الجماهير التي لا يمكن ينهض للمجتمع كيان دون أن تكون فسيفساؤه الاجتماعية مؤمنة بهذا المنهج، قادرة على استلهامه مصدراً لتقرير ما تريد، وكيف تتصرف، وكيف تمارس حياتها، وكيف تضع خياراتها، وكيف تعيد تقويم كل تلك السلوكيات وفق منظومة تدعى التفكير العلمي.
وحتى لا يصبح هذا الحديث من مواعظ البحوث والدراسات، فإنه يمكن لأي قارئ إسقاط هذا النوع من التفكير العلمي على كثير من المشاهد اليومية، لتكون الصورة أقرب لفهم هذا المعنى الضخم، فالاقتراب منه هنا، هو تقريب لمفهوم نحن بحاجة لتعزيزه قبل أن يكون مفهوماً نظرياً في عقل باحث أو دارس.
إذا كان التفكير العلمي قائم على الدليل والبرهان والمنطق السليم والإيمان بمبدأ السببية وتدبر الآثار والنتائج، وكل مفردة من تلك المفردات لها خصوصيتها وعمقها وأبعادها، فهو في طبيعته مناقض لكل أنواع الشعوذة والدجل والتضليل.. لا يمكن أن يستقيم هذا التفكير في عقل فرد أو مجتمع ويكون أسيراً لمروجي الشعوذة والدجل بأنواعه، حتى تلك التي تتوسل معرفة لا يمكن إثباتها بالدليل والبرهان... فلماذا تتوسع دائرة الشعوذة، لماذا تصبح الإشاعة رائجة في المجتمع دون دليل أو برهان أو استقصاء، لدرجة أن تناقلها واستمراءها والترويج لها لا يعرف حدود السؤال الأول.. لماذا يروج للدجل المعرفي - إن جاز التعبير - عبر صياغات تتوسل المعرفة لكن بلا نسق قابل للمحاكمة أو الفحص.
العقل العلمي عقل مستشكل متسائل لا يمكن سرقته بسهولة لكن من الواضح ان هناك عقلاً اجتماعياً طيعاً، سهل الاستجابة، سهل الانقياد لمروجي التضليل أو الدجل.
العقل العلمي نتاج للتفكير العلمي. والعقل العلمي يؤمن بالسببية وبالنفعية المباشرة، ويهتم بتوظيف الوسائل أو العناصر المتاحة لخدمة مشروع حياة لا مشروع عشوائي غير مبرر أو غير نافع أو تبدو نتائجه كارثية. لو حمل المجتمع نسقاً علمياً في تفكيره يؤمن بالسببية والنفعية ومقدر علاقته رفاهة اليومي بهما، هل كان يمكن أن يبرع في تدمير كل ما هو حضاري، لم ينتجه هو وإنما حتى أساء استخدامه. هل يمكن أن يتحول إلى مجتمع استهلاكي شره ما زال يمارس طقوسه في الانتهاك اليومي لمقدرات الحياة من ماء أو طاقة أو بيئة أو مركبات، يتعامل معها وكأنها تجدد ذاتها هي تتحول إلى مشكلة بحد ذاتها سواء في حال الاستنزاف أو الفقد أو تشوه الممارسة.. بل تتحول أحياناً إلى أدوات قاتلة.
لو حمل المجتمع عقلاً علمياً نسقه يؤول إلى التفكير العلمي، هل كان يمكن أن يكون مجتمعاً هشاً، سريع العطب، يتأثر بأي خطاب عاطفي لا يتسم بعمق الرؤية ويستدر العواطف والمشاعر لا سواها ويحرك الأجساد نحو مصارع السوء.
لو حاز التفكير العلمي الذي يتسم بالنظر للكليات قبل أن يغرق في الجزئيات والتفاصيل الصغيرة، هل يمكن أن نعاود الصراع حول التفاصيل الصغيرة ونهمل الكليات الكبرى، ونغرق في اليومي ونهمل المستقبل، ونجادل في الظواهر ونهمل النتائج.
لو حاز التفكير العلمي قدراً من الاهتمام والتأسيس الحقيقي في المجتمع، هل يمكن أن تظهر لدينا نزعة التطرف والتعصب لفكر أو عنصر أو مذهب أو توجه حد إلغاء الآخر.
التفكير العلمي مفتوح على رؤية تعددية، لا ينسجم مع الرأي الواحد على الاطلاق، وهو يعرض كل ما يصل إلى هذا العقل على البرهان والدليل والمقارنة واستلهام النتائج لا الوقوف عند ما يفرضه البعض باعتباره مسلمات نهائية. ولا يمكن أن يجير لصالح مرشد أو مروج للفكر باسم التسليم والقبول والانصياع. سمة العقل العلمي الأساسية الموضوعية وعدم التعصب وعرض الحجج وبحث التفاصيل والقبول بالتعددية.. حتى الإذعان للحقائق إذا تبينت بغض النظر عن مصدرها. سمة العقل العلمي قبول الآخر والبحث العميق في تكوينه، ورد كل هذا للظروف الموضوعية التي خلقت تلك الكيانات لا نبذها ومناوأتها العداء أو ترسيخ الكراهية نحوها أو رفض حتى التسليم في منطقها.
لو كان لدينا قدر من التفكير العلمي يحدد نسقاً للتفكير العام بما حولنا، هل كان يمكن أن نقدس الأشخاص - وهم بشر - مهما بلغ شأنهم، أو التاريخ مهما بلغ مجده، أليس من شروط ذلك التفكير معاودة الاكتشاف والقراءة المتجددة وقبول الرأي الآخر والتسامح مع المختلف طالما لم يتعمد الإلغاء أو فرض شروطه على الاحياء.
لو شاع هذا التفكير وتأسست له أركان في العقل العام، هل كانت تصبح قضايانا مجرد انفعالات يومية حول أوهام لا حقائق، وخلفيات لا وزن لها في سلم الموضوعية. هل كان يمكن أن نقبل الانصياع والإذعان دون أن يعمل هذا النسق على ترشيد حتى قبولنا ورفضنا ومقاربتنا للحقائق والموضوعية والسببية والآثار. لو شاع التفكير العلمي هل يمكن أن يهدر الإنسان قواه النفسية والعقلية والصحية ووقته الثمين فيما لا طائل من ورائه. لو ترسخت قيم ذلك التفكير، وصار هو المحاكمة لكل الظواهر الاجتماعية هل نقف مكتوفي الأيدي أمام استعادة ظواهر اجتماعية لا قيمة لها في سلم الحقائق، وإنما هي إرث اجتماعي قد لا يكون كله حسناً، بل أن بعضه مكلف وقبيح ومعطل.
لو شاع لدينا التفكير العلمي، هل نقيم الناس بكفاءاتها أو أنسابها وجذورها، هل نقف أمام تاريخ الأجداد البعيد ونهمل سلوكيات وعطاءات اليومي الذي نعيشه ونعرف تفاصيله ونكتوي بنار ممارساته التي تبدو أحياناً غير عادلة ناهيك انها غير إنسانية.
لو حاز التفكير العلمي قدراً من جهود المصلحين، هل كان يمكن أن يكون المجتمع بلا نسق أو رؤية، ينتظر قدره اليومي بلا مبالاة، وكأن الحياة كلها قدر، لا فعل ونشاط وعمل وتخطيط واستلهام واستشراف للمستقبل... إنما الوقوف دائماً بتسليم على عتبات المجهول.