قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(107)﴾ (الأنبياء).
لو يعلم الذين آذوا النبي- صلى الله عليه وسلم- بالكلماتِ أو الأفعال كيف كانت رحمته بهم، وكيف كانت شفقته عليهم لذابت قلوبُهم محبةً له ورغبةً في اتباعه صلى الله عليه وسلم.
إنها الرحمة التي تفيض حتى تكاد تقتل صاحبَها أسًى لما يرى من انصراف الخلق عن طريق الجنة إلى طريق النار، حتى يصف القرآن حال النبي- صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)﴾ (الشعراء)، وفي رحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين يقول تعالى:﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: من الآية 59).. وقال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)﴾ (التوبة).
أخرج الشيخان عن أنسٍ رضي الله عنه أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوَّز في صلاتي مما أعلم من وُجْد أمه من بكائه"، وكان يُوصي الناسَ بالضعفاء منهم كما في قوله- صلى الله عليه وسلم-:"استوصوا بالنساء خيرًا" فقد أمر بتكريم المرأة أمًّا وأختًا، وزوجًا وبنتًا، والأحاديث بل الأفعال النبوية في هذا الباب كثيرة، بينما الحضارة الغربية لا تزال حتى الآن تعتبرها سلعةً تؤجر وتمتهن في أخس الأعمال، أو دنيا يتباهى بها الرجال!!
وكان- صلى الله عليه وسلم- يُوصي بالخدم، فعن معاوية بن سويد: "كنا بني مقرن على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليس لنا خادمٌ إلا واحدة، فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أعتقوها"! فقيل: ليس لهم خادم غيرها، فقال: "فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها" أخرجه مسلم.
رحمته بالكافرين برسالته
فكان يحمل عن العجوز- وإن كانت كافرةً به ولم تكن تعرفه- حتى إذا أوصلها لبيتها حذَّرتْه من اتباع من يدَّعي النبوة، فأخبرها- صلى الله عليه وسلم- أنه محمدُ بن عبد الله!! وكان إذا ذبح شاةً وأمر بتوزيع جزءٍ منها على الجيران لا ينسى أن يوصي: "هل أهديتم إلى جارنا اليهودي؟"
وتروي كتب السير أنه- صلى الله عليه وسلم- بكى لما رأى جنازةَ مشرك، ولما سئل عن سبب بكائه- صلى الله عليه وسلم- قال: "نفس تفلَّتت مني إلى النار"، وتبلغ رحمته- صلى الله عليه وسلم- بأعدائه القمةَ السامقة عندما يتعرَّض لإيذائهم، ففي هذه المَواطن التي يفقد فيها الرحماء رحمتَهم، عندما تعرَّض للسباب والضرب من أهل الطائف، ونزل ملك الجبال في صحبة جبريل عليه السلام يعرض على النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يطبق عليهم الأخشبين، يقول النبي- صلى الله عليه وسلم- قولته المشهورة:"اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون"، وفي هذا القول جمع النبي- صلى الله عليه وسلم- مقاماتِ الإحسان كلها، فقد عفا عنهم، والتمس لهم العذرَ بجهلهم، ثم دعا لهم ولم يكن هذا موقفًا فريدًا للنبي- صلى الله عليه وسلم- بل كان هذا خلُقه مع من خالفه وحاربه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم "اللهم اهدِ دوسًا، اللهم اهدِ ثقيفًا، اللهم اهدِ أمَّ أبي هريرة".
ثم تجلَّت رحمته- صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة، وقد فعل أهلُها به وبأصحابِه ما فعلوا.. قال عمر: لما كان يوم الفتح ورسول الله بمكة أرسل إلى صفوان بن أمية، وإلى أبي سفيان بن حرب، وإلى الحارث بن هشام، قال، عمر: فقلت لقد أمكن الله منهم، لأعرفنهم بما صنعوا، حتى قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريبَ عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، قال عمر: فافتضحت حياءً من