ما هو التفكير الذي نريده ؟
وأيضاً نجيب على هذا التساؤل في نقاط محددة وواضحة :-
أولاً : التفكير العام
أعني بذلك أن التفكير الذي نريد أن نتحدث عنه وعن منهجيته ليس التفكير في المسائل الشخصية ، مثلاً الطالب يفكر يدخل في كلية العلوم أم كلية الآداب هذه مسألة شخصية يفكّر فيها لوحده ، لكن التفكير العام الذي يتعلق بالأغلب من الناس ، والأغلب من البلاد ، والأغلب من المشكلات ، والذي ينطلق إلى مراعاة المصالح العامة ويعالج المشكلات والمفاسد العامة .
هذا هو التفكير الذي نتحدث عنه ، وهو الذي يحتاج أن تتظافر فيه الجهود ، وإلى أن يعمّق فيه النظر ، ويعاد فيه بصورة أو بأخرى ، فنحن عندما نقول هذا أيضاً ندرك أن هذا النوع من التفكير يستلزم المعرفة الواقعية للوضع الذي يعيش فيه الإنسان والمجتمعات التي تحيط حتى يستطيع أن ينتقل إلى هذا التفكير العام ، أما التفكير الخاص - كما قلت فهو يسير جداً وكل أحد يفكر في قضاياه الشخصية ينبغي أن تأخذ حداً يسيراً ويبقى التفكير في المشاكل والمصالح العامة هو الأولى والأهم الذي نريده ونحتاج إليه .
تحديد مجال التفكير
وهذه النقطة الأصل أن تكون الأولى ، ما معنى ذلك ؟ إن هناك حدوداً جعلها المنهج الإسلامي للعقل خارج هذه الحدود ليست من مجالات العقل والتفكير والدخول في هذا المجال المحظور أو المحدود هو نوع من الخبط في التفكير ، ونوع من الإضلال للعقل ، فهناك على سبيل المثال دائرتان لا مجال للعقل فيهما وليستا لمحل التفكير الإنساني والبشري
مجال الغيب
الذي جاء فيه الخبر عن الله - عز وجل - وبلغنا إياه رسولنا – صلى الله عليه وسلم - . الغيبيات لا مجال للعقل فيها بل إذا دخل العقل في الغيبيات وفي التفكير فيها يضل ويزل وكما قال ابن وهب كما ذكر شارح الطحاوية : " رأيت أثبت الناس في القدر أقلهم كلاماً فيه - أي وتفكيراً فيه - ورأيت أكثرهم اضطراباً فيه أكثرهم كلاماً فيه " . وهكذا كما قال أيضاً شارح الطحاوية : " ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم فمن لم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مراده عن خالص التوحيد" . وهذا يدلنا على حفظ العقل وسلامة التفكير من أن يدخل فيما لا قدرة له عليه وأمر ثان أيضاً هو المسلّمات الشرعية المقطوع بها من الأحكام الثابتة بالنصوص الواضحة ، فهذه لا مجال للتفكير فيها فلسنا في شك من ديننا ولا نحتاج إلى إعادة النظر في أحكامنا ، والذين يريدون أن يدخلوا أحياناً في قضية التفكير ومنهجية التفكير وضرورة التفكير، يدخلون على المسلمين لما لا تفكرون في هذه الأمور؟ لما لا تفكرون على سبيل المثال في أحكام المواريث في أحكام التعدد في غير ذلك من الأمور ؟
نقول : نحن أمنا وسلمنا { والراسخون في العلم يقولون أمنا به كل من عند ربنا } .
فهذا التحديد مهم جداً وهو الذي نريده ، نريد أن نصب التفكير في المجال الحياتي العملي الذي يسعى إلى تحسين أوضاع الحياة الدنيا وإلى تهيئة الظروف للقيام بخلافة الله - عز وجل - في هذه الأرض وتأدية الرسالة الإسلامية على الوجه الأكمل .
ثانياً : التفكير المتخصص
ونعني بذلك أنه لابد أن يكون هذا التفكير الذي ننشده من أهل الاختصاص ، ومن أهل الخبرة ، ومن أهل الدراية فليس من المقبول أن نعرض مشكلات الأمة ومعضلاتها التي امتدت أزماناً متطاولة لنسأل فيها من لا يحسنها ولا يتقنها وليس عنده علم ولا فهم ولا خبرة ولا تجربة ، وأضرب لذلك مثالاً قد وقع وهو مما يعني يوجد له أمثلة أخرى مقارنة ؛ في مقابلة مع فنانة أو مغنية سئلت عن مشكلات التسلح النووي فقالت - وهي الخبيرة بهذا الفن أو بهذا المجال - : " خير لنا من أن ننفق الأموال الطائلة في أمور التسلح أن نبني مسرحاً لنشاهد الفن الراقي أو الرفيع " هذا التفكير هو نوع من الانحراف عندما يوكل إلى السذج أو البسطاء أو التافهين الذين لا يدركون أصلاً هذه المشكلات فضلاً عن أن يفكروا فيها ويجدوا لها الحلول المطلوبة ، وكما قيل : " العالم من عرف كل شيء عن شيء وشيء عن كل شيء " . وهذه مهمة للمتخصصين الذين يسمون في مجتمعات الناس المفكرين ، أو ذوي الرأي ، أو في الاصطلاح الشرعي أهل الحل والعقد الذين ينظرون في مصالح الأمة هم أهل علم تخصص أحدهم فعرف كل شيء عن شيء واحد ، أي عن علم معين وعرف شيئاً عن كل شيء ، أي عرف الواقع وعرف خلاصات عن العلوم الأخرى عن الأحوال أو الأوضاع الأخرى التي ليست مجالات تخصصه .
ثالثاً: التفكير المتواصل
فليس التفكير الذي نريده هو تفكيراً مؤقتاً نفكر في مشكلة يوماً أو يومين ؛ فإذا زالت بعض عوارضها تركناه ، ثم إذا بها بعد أعوام تظهر بأعمق وأقوى وأكثر إشكالاً ما كانت عليه من قبل ، والتفكير المتواصل يستلزم القناعة بأهمية هذا التفكير والمواصلة فيه إلى نقطة إيجاد الحلول الناجعة النافعة الدائمة ، ويستلزم أيضاً الشعور بالمسؤولية ؛ فإن الذي توكل إليه الأمور المهمة فيفكر فيها وقتاً ويتركها ويهملها وقتاً ، لا شك أنه رجل قد ضعف عنده شعوره بمسئوليته وأمانته ، ويستلزم أيضاً هذا الباب صبراً وثباتاً على طول الطريق في المعاناة التي يجدها المفكرون أو العاملون من أجل تخليص الأمة من مشكلاتها ، ويستلزم أيضاً أن يكون هناك يقين بالآخرة وبالثواب واحتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى .
رابعاً: التفكير العملي
فنحن لا نريد أحلاماً وخيالات كما يفكر بعض الناس ويقول - وهو جالس على أريكته نريد أن نحل مشكلة مثلاً البطالة فيفكر وهو جالس - فيقول : لماذا لا نفتح المصانع حتى يشتغل العاطلون في هذه المصانع ؟ وهو ليس عنده أصلاً لا العلماء ولا الخبراء والإمكانات فهذا يتكلم في الهواء - كما يقولون - والتفكير العملي يستلزم معرفة الإمكانات على حقيقتها ، كما يستلزم الإيمان بالتدرج والأخذ بالخطوات فالقفزات هذه ليست من الخصائص التي نريدها في هذا التفكير الذي ننشده ؛ فإن التدرّج أمر مهم ونحن نعرف أن الأحوال التي آلت إليها الأمة لم تتم في يوم وليلة ، ولم تحصل بين طفرة وأخرى ، وإنما أخذت حضها في الزمن وأخذت حضها في تفكير أعدائنا فيها وعملهم في إيصال الأمة إليها .
خامساً : التفكير الشمولي
فعندما نفكّر في مشكلة ينبغي أن لا نكون مثل الذي ينظر من ثقب الباب ينظر أحد الناس يكون مثلاً في حجرته فينظر من ثقب الباب فيقال له : ما هو العالم ؟ فيصف ما يراه من هذا الثقب ، ويقول : العالم فيه كذا وكذا و كذا لماذا ؟ لأن نظرته قاصرة ليست شاملة - على سبيل المثال - عندما نريد أن نعالج مشكلات اقتصادية فينبغي أن ندرك أن هناك علاقات وطيدة للمشكلات الاقتصادية بالقضايا الاجتماعية فنقول - على سبيل المثال - : ينبغي أن نشجّع الاستثمار ، ينبغي أن نشجع السياحة ؛ طيب السياحة - كما نعرف - قد يكون فيها دخول إلى دائرة المحرمات الشرعية قد يكون فيها إفساد للأخلاق الإسلامية التي ينبغي أن يتحلى بها المجتمع المسلم .
إذن لا تفكر في علاج المشكلة وتنسى الآثار التي تترتب عليها ، وتوجد مشكلة أخرى في قطاع آخر ، فالتفكير الذي نريده هو تفكير شمولي يعرف علاقات المشكلات بعضها ببعض وينظر نظرة أوسع في معرفة المتداخلات عندما يريد ما يفكر في قضية من القضايا .
سادساً : التفكير المرن
الذي يعطي البدائل فليس عندنا محل واحد لكل المشكلات كما يعني تذكر أحياناً في بعض الطرف أن أحدهم عنده كلمة تعلمها فجاءه سائل فأعطاه هذه الكلمة فوافقت جواباً يعني صائباً ، فجاء الثاني فأعادها عليه ، فوافقت من وجه آخر فمازال يكررها حتى أصاب إصابتين وأخطأ مئات من الأخطاء ، كلا ! ينبغي أن يكون هناك مرونة في هذا التفكير بإيجاد البدائل ، إدراك المتغيرات فما يكون حلاً اليوم قد لا يكون حلاً مناسباً في الغد وهكذا أيضاً.
سابعاً : التفكير التعاوني
ونقصد به أن يكون هناك تعاون في التفكير لا يفكر كل أحد باستقلاله وحده ؛ فإن القضايا العامة تحتاج إلى هذا التعاون ويستلزم ذلك
أولاً : شعوراً بأهمية التعاون .
ثانياً : تواضعاً عند المفكر حتى يستطيع أن يتعاون مع غيره.
ثالثاً : شعور بأهمية التكامل ، وأن الإنسان قاصر وحده ، وأنه مع غيره يكمل هو غيره وغيره يكمله.
رابعاً : وكذلك أيضاً نفسية العمل بروح الفريق الواحد لأن المصالح المفروض أن تكون واحدة .
ثامناً : التفكير المنظّم
لا المشوش الذي يدخل شيئاً بعد أن بدأ بشيء وهذا التفكير المنظم يبدأ بالملاحظة التي نلاحظها أحياناً في أمر من الأمور ، ثم نخضع هذه الملاحظة للجمع - أي نجمع عنها - حتى نعرف مدى حجمها .. مدى انتشارها .. هل هي ظاهرة ؟ هل هي محدودة ؟ ثم بعد ذلك نخضعها للتحليل لنعرف الأسباب والمؤثرات. لماذا تزيد في هذا الجانب؟ ولماذا تقل في هذا الجانب؟ ثم بعد ذلك نستفيد من خبرات سابقة وقوانين وتجارب سابقة وندري إمكانية أن تكون هذه الأمور السابقة حلاً وعلاجاً لهذه الظاهرة ثم بعد ذلك نجرب بعض الحلول وحينئذ نأخذ النتائج ونقيسها ثم نعدل ما نحتاج إليه من تعديل ، هذا هو التفكير المنظم ، أما التفكير المشوّش هو الذي يأخذ أول فكرة ويطبقها مباشرة من غير هذا التنظيم والتدقيق الذي يعصم من كثير من الأخطاء .
وأخيراً : التفكير المقصود
الذي نقصد إليه قصداً ونفرّغ له الناس تفريغاً ، وندعو إليه دعوةً وليس التفكير التلقائي وأنا سائر في الطريق جاءني إنسان فسألني عن سؤال ففكرت فيه في وقته ، هذا غالباً لا يؤدي إلى ثمرة ، ولا يعطي نتيجة .
هذه ملامح للتفكير الذي نريده .
انتقل إلى النقطة الرابعة وهي : سمات المنهجية في التفكير . ومنهجية التفكير في الحقيقة تستدعي أموراً كثيرة والذي أذكره هنا هو المهم منها أو لعله يكون المقدم منها على غيره .