سمات المنهجية في التفكير
أولاً : اليقين لا الظن
إن أهم سمات التفكير المنهجي الموضوعي العلمي أن يكون مبنياً على اليقين ،على المعرفة الصحيحة ، ليس على الظن والهجس والتخمين ؛ لأن البناء على الظن كالذي يبني بيته - كما يقولون - على شفير جرف هار
ومكلف الأيام ضد طباعها **** متطلب في الماء جذوة نار
طلب غير ممكن فيبني إلى أن ينهار ؛ لأن أساسه غير صحيح ، وقد وجهنا القرآن الكريم إلى البعد عن الظن والتخمين ، وإلى اعتماد العلم واليقين فقد نعى الله - سبحانه وتعالى - على الكافرين ، وذكر مقالتهم المرفوضة في قوله - جل وعلا - : { إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين } يظنون ظناً واعترفواً أنهم ليسوا مستيقنين ، وجعلوا هذا الظن أساساً في كفرهم وفي محاججتهم ، ومن عجيب أمورنا في واقعنا أننا نجد من يفكّر ، ويبني أفكاره ، بل ويبني بعد ذلك قناعاته ، بل ويبني منهجه ، بل ويبني تطبيقه العملي على ظنون وتخمينات ليس لها أساس من الصحة ، ولم يجهد نفسه ليطبق المنهج القرآني { يا أيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } بل حتى في الظروف العصيبة وظروف العداء والحروب ينبغي أن لا تفارق المسلم منهجية اتباع اليقين ، وتمحيص الدلالة والخبر حتى يبني تفكيره وعمله بعد ذلك على نهج صحيح .
فالله - سبحانه وتعالى - يقول : { يا أيها الذين ءامنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا } ، فكرر الأمر مرتين لهذا الجانب ، والله - عز وجل - قد جعل الدليل المادي المحسوس ، والحقيقة الواضحة هي الفيصل ، فلما ادعى اليهود والنصارى من أهل الكتاب أنهم أهل الجنة وأنهم مخصوصون بها جاء النص القرآني { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } .
أخرجوا لنا حججكم ، وأظهروا لنا حقائقكم ، ولذلك نعى الله - عز وجل - على أهل الكفر هذه الظنون والتخمينات ، وبيّن أنهم مسئولون عنها ومطالبون بالحقيقة فيها .. { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون } .
من أين لهم هذا الظن من أين لهم هذه المعلومة ظن رجم بالغيب دون أي يقين ، وأي شيء ثابت والله - عز وجل - قد حذّر من الكثرة التي تتبع الظنون أن تجرفنا معها فقال في توجيه النبي الكريم : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } ينبغي للمسلم أن لا ينجرف مع ما يسمع أو مع ما يصور له على أنه حقيقة قطعية ، وأنه أمر واقعي قد حصل إما بكثرة الأخبار المطلقة التي لا خطام لها ولا زمام ، وكثرة الأقوال التي تحوم من غير دليل ولا بينة ، فلو أن - على سبيل المثال - ألف إنسان أخبروك خبراً واحداً ولم يكن عندهم دليل بيّن ، بل عندك من قبل ذلك علم يخالف خبرهم فينبغي أن لا تتزعزع ابتداءً ، ويكون عندك منهجية التفكير لا ترد قولهم لكن لا تقبله مسلماً ولذلك ينبغي أن يكون معلوماً لدينا أن اليقين والمعرفة الحقيقية هي الأساس التي نبني عليه التفكير .
ثانياً : الحق لا الهوى
فقد يعرف الإنسان الحقيقة كاملة بكل أبعادها ، ولكن هواه يغلبه فيتجاهل الحق الذي يعلمه علم اليقين تبعاً للهوى والشهوة ، وإرضاءً لغرور نفسه أو الاستكبار .. { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا } .. { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } أي متابعة لهوى النفوس والاستعلاء والكبر حتى إبليس - عليه لعنة الله - إنما صدّه عن الاستجابة لأمر الله أنه { أبى واستكبر } وكان كبره هو أساس كفره ، وهذا أمر مهم جداً ، وقد بيّن الله - عز وجل - أن اتباع الهوى وصف لأهل الظلم ؛ لأنهم يظلمون الحقيقة ، ويظلمون العارفين بهذه الحقيقة ، كما قال - جل وعلا - : { بل اتبع الذين ظلموا أهوائهم بغير علم } وكلمة بغير علم ؛ لأنه عندما تتجاهل هذه الحقيقة وتنكر الحق مع معرفتك به كأنك لم تعرفه أصلاً ، وكأنك لم يسبق لك به علم مطلقاً كما قال - جل وعلا - في تعظيم شأن اتباع الهوى ، وأنه إله يعبد من دون الله : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه .. } .
سبحان الله هذا الهوى يهوي بصاحبه في ما لا طائل ورائه ، وقد بيّن لنا القرآن الكريم أن النفس قد تنزع في بعض الأحوال إلى اتباع الهوى عند وجود مقتضيات نفسية بشرية في حقيقتها ، لكن الحق هو ينبغي أن أعلى وأقوى منها عندما تفكر في أمر يخص عدوك .
ألا يقودك هواك وتدعوك نفسك إلى أن تغالط الحقائق وإلى أن تتجاوز إلى ما عند عدوك من حق أو خير فتنكره عليه وتتجاوزه إلى الحكم الظالم الجائر الذي يخفي هذه الحقائق ويتجاوز عنها الجواب / بلا ، ولذلك جاء في القرآن : { قل لا اتبع أهواءكم وما أنا من المهتدين } وقال : { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } .
قال ابن كثير - رحمة الله عليه - : أي لا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في شئونكم بل ألزموا العدل على كل حال .
وعندما يتأمل الإنسان في طبيعة نفسه فإنها تهوى أموراً من الشهوات لو فكر تفكيراً منهجياً لعرف أن هذا الهوى مادام يدعو إلى أمر محرم أو قد حذّر منه الشارع ، فينبغي أن يخالف هواه ، فإذا استسلم لهواه ؛ فإنه قد ناقض التفكير الصحيح ، وناقض المصلحة الإيجابية النافعة له في الدنيا ، وكذلك في الآخرة والله - جل وعلا - قد بيّن لنا فقال : { وعسى أن تكرهوا شيئاً و يجعل الله فيه خيراً كثيراً } . والنبي - عليه الصلاة والسلام – قال : ( الصدق منجاة والكذب مهواه ) .
ظاهر الأمر في بعض الأحوال أنك إذا صدقت قد يلحقك الضرر ، لكن ينبغي أن تتأكد أن الحق والمنهج الصحيح هو الذي ينبغي أن يتبع ، وأن عاقبته إلى خير ، وأن تنازع نفسك في ما تدعوك إليه من اتباع هواها وشهواتها وأن تؤثر الحق على الهوى .
ثالثاً : الصد لا التلون
وهذه خصيصة مهمة من سمات المنهج في التفكير أن تكون صادقاً في تفكيرك غير متلون متقلب . بعض الناس يتقلّب إما تبعاً للهوى كما مرّ بنا ، وإمّا تبعاً للمصلحة في بعض الأحوال ، وهذا من أخطر أنواع سوء التفكير وما يترتب عليه ؛ لأنه خلاصة النفاق . المنافق إذا حدّث كذب ، وإذا أؤتمن خان .. يظهر شيئاً إيجابياً ويخفي شيئاً سلبياً .. النفاق الكفري إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، النفاق العملي له صور كثيرة . التلوّن هو أيضاً من العقائد الانحرافية الخطيرة كما هي عقيدة التقية عند أهل التشيع . هذا التلون هو نسف للتفكير المنهجي ؛ لأنه لا يتطابق مع الواقع ، لا بد أن يكون هناك انسجام بين الواقع والدعوة بين القول والعمل بين الأماني والطموحات والأعمال والجهود المبذولة لأجلها وإلا عندما ينعدم هذا يكون هناك النفاق والتلون والحربائية التي تتشكل وفق ظروفها ، وهذا هو الذي يسمّى في الاصطلاحات المعاصرة عند أهل السياسة المكيافيلية التي تراعي المصلحة ، وتجعل الغاية تبرر الوسيلة ، فيمكن أن تصل إلى ما تريد بأي طريقة أخرى ، وتفكّر بأي تفكير منحرف ، ما دامت أنك تريد تصل إلى شيء ما ، وهو كذلك في المناهج الغربية في النواحي التفكيرية ما يسمى أيضاً بالبرغناتية أو النظرية النفعية ، التي تجعل الإنسان يغيّر التفكير ويلوّنه حسب المصلحة والمنفعة ، وهذه قضية - للأسف - أنها سرت في بعض مجتمعات المسلمين ، حتى عند بعض المنظور إليهم أنهم من أهل الخير تجد أنه ينظر إلى الخير من زاويته ، فيغيّر نمطية تفكيره ، ونمطية عرضه للأمور ، ونمطية منهجيته التي تنبني على تفكيره بحسب هذا التلوّن الذي يراه حقاً وهو في الحقيقة عين الباطل ، وهذه قضية خطيرة جداً .
رابعاً : التخصيص لا التعميم
التفكير - أيها الأخوة - كما قلنا ينبني على حقائق .. على أرقام .. على إحصاءات .. على حصر واستقراء .. على معرفة دقيقة . ويؤدي بالتالي أيضاً إلى نتائج دقيقة ، أما التعميم فهو سلاح العاجز الذي لا يريد أن يفكّر ، فمن السهل - مثلاً - أن نقول من أمراض العالم الإسلامي انتشار الأمية ؛ كلام عام . هل هذا يقودنا أو يساعدنا على أن نوجد حلاً لهذه الأمية ؟ لكن عندما نقول الأمية مشكلة .. تتجسد هذه الأمية في انعدام التعليم كلياً ، وفي انحراف التعليم أحياناً في بعض صوره ، وفي وجود كذا وكذا ، ثمّ نبسّط هذه الظواهر ، ونجمع المعلومات حولها والإحصاءات ، حينئذ لا نقول الأمية بهذا الإطلاق العام ، وإنما نشخّص ونحدد ، ولا بد أن نلتزم هذا ؛ لأن الدقّة هي التي تقودنا إلى تحديد المشكلة ، وهي التي تفرق بين المشكلات . هناك أمور دقيقة التهور والشجاعة بينهما خيط رفيع ، عندما يكون هناك عموميات نحسب الشجاعة تهوراً ونظن التهور شجاعة في بعض الأحوال لماذا ؟ لأننا ننظر نظرة عمومية لا نغوص إلى الخصوصيات والأمور الدقيقة التي نحتاج أن نكشف عنها ، ولذلك كثيراً ما تأتي الأحكام - وللأسف - على سبيل العموم وهي أحكام عجيبة تناقض كل منهجية فكرية فضلاً عن مناقضتها للمنهجية الشرعية ، فعندما يقال - مثلاً - عن أهل بلد ما أن أهل هذه البلد كلهم جهله ، أو أهل هذه البلد كلهم متصوفون ، أو مادام الإنسان من هذا البلد فهو على مذهب كذا .. سبحان الله ! هذا التعميم خطأ قاتل قد يغلب شيء ما على بلد أو على إنسان لكن في آخر الأمر هناك حدود معيّنة ، وهناك أوساط محددة ، وهناك مقادير دقيقة لهذه الظاهرة ينبغي أن لا نخرج عنها ، ولذلك النبي – صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يعمم لم يخصص في الأفراد فيقول : ( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ) . فالنقد هنا لم يخصص الفرد ، ثم أيضاً عندما نأتي إلى المنهج الإسلامي نجد أن الاستثناء دائماً يرد في الآيات القرآنية . تجد الحكم عاماً ثم بعد ذلك يأتيك الاستثناء ، بل حتى هذه المنهجية الدقيقة ظهرت في سير الرسل والأنبياء كما في قصة يعقوب - عليه السلام - وقصة يوسف أخذ على أبناءه العهد لكن قال : { إلا أن يحاط بكم } هذا الاستثناء يدلنا على الدقة .. يدلنا على أنه لا بد أن تخضع للمقاييس الدقيقة وليس للاطلاقات العامة .
خامساً: المسميات لا الأسماء
أيضاً مما يشوّش على التفكير أن يرتبط الناس بالأوهام ، بل بالأسماء دون الحقائق والمسميات ، فقد بيّن النبي – صلى الله عليه وسلم - هذه الحقيقة فقال في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه وغيرهم : ( ليشربن أقوام من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ) فبعض الناس فيهم سذاجة ، بمجرد أن نغير لهم الاسم ، وبمجرد أن نغيّر لهم بعض الحقائق يرضون ويسكنون ويألفون ويتأقلمون بل يشجعون ويؤيدون ، بل قد يدعون ويتحمسون بما كان له من قبل من منكرين ، وهذا يدلنا على أن التفكير غير الواعي وغير الرصين يذهب يميناً وشمالاً كما سنذكر أيضاً في بعض النقاط اللاحقة إن شاء الله .
المنافقون قال الله - عز وجل - في وصفهم : { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم } مظاهر فخمة . والنبي - عليه الصلاة والسلام - سأل الصحابة عندما مر رجل له هيئة حسنة ، قال : ما تقولون في هذا ؟ قالوا : هذا حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع ، ثم مر رجل آخر عليه سيماء البساطة ، فقال : ما تقولون في هذا ؟ قالوا : هذا حري إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن هذا خير من مائة من مثل ذاك ) أو كما قال - عليه الصلاة والسلام - .
المظاهر البراقة .. الأضواء المسلطة الزخم الذي يحيط في بعض الأمور يلفت النظر عن المسميات الحقيقية لها ، فنحن نسمع أسماء في غير موضعها كما قال القائل في وصف أحوال الأندلس :
إلقاء مملكة في أرض مهلكة **** كالهر يحكي في انتفاخته صولة الأسد
وأنت اليوم قد تسمع من يطلق عليه ألفاظ العلم وليس من أهل العلم ، أو يلفظ عليه لفظ المجاهد هو يجاهد في ميدان ليست من ميادين الجهاد مطلقاً ، ولا يصح أن يطلق عليه هذا اللفظ ، وهكذا نسمع المصطلحات التي لها مدلولات شرعية ، وقد ركبّت على أشياء لا تمتّ للشرع بصلة ، وهنا ينجرف الناس ، أو تختلط المعالم لديهم ، فينبغي أن يكون التفكير في هذا الجانب مرتبطاً بمسميات لا بالأسماء .
سادساً : البحث لا التسليم
كثيراً ما يكون هناك أو تكون هناك النفسية التسليمية التي تأخذ الأمور على أنها مسلّمات . قلنا : هناك مسلّمات عقدية ، ومسلّمات حكمية شرعية لا إشكال فيها ، لكن هناك اجتهادات بشرية خارجة عن إطار الكتاب والسنة والإجماع الذي لا شك في اتباعه والأخذ به والتسليم له ، فتجد أن التفكير الموضوعي والتفكير العلمي المنهجي يقتضي منك أن تأخذ الأمور بروح البحث لا التسليم ، لا يعني ذلك التشكيك في علم من سبق من أهل العلم ولا في النوايا وإنما العلم رحم بين أهله - كما يقال - والعلم رائده الدليل ، وغايته الوصول إلى الحق ، فبحث المسألة قد يكون قد وهم فيها من سبق ، وقد أخطأ فيها من تقدّم ، وهكذا نجد أن العلماء حتى في المصنفات التي اعتمدت على مصنفات أخرى كالمختصرات - مثلاً - الذي يختصر كتاباً من الكتب كما هو شأن كثير من العلماء السابقين الإمام الذهبي اختصر كثيراً من الكتب ، لكنه في اختصاره له نظرات نقدية يختصر ، وقد تمرّ مسألة يخالف فيها صاحب المختصر فيبيّنها وينقدها ، ويبيّن ما يراه فيها من خطأ ، وهناك مقالة شائعة ذكرها صاحب كشف الظنون ونقدها وهي قول القائل : ما ترك الأول للأخر ، قال صاحب كشف الظنون : " لا تقل ما ترك الأول للآخر ولكن قل كم ترك الأول للآخر " هناك أمور مستجدة .. هناك أمور ومتغيرات تطرأ تجعل النظر في المسائل التي سبق بحثها يؤدي إلى نتائج قد يكون فيها اختلاف عما سبق ، ولو لم يكن ذلك كذلك لكان الناس ساروا في حياتهم المادية على ما كان عليه الأولون . مادام الأولون قد ركبوا الجمال فلماذا نحن نغيّر ونركب السيارات ، ونستفيد من الطيارات أو كذا ؟ نأخذ ما كانوا عليه .
كذلك في الأمور البحثية وفي الأمور النظرية الأصل أن يكون العقل المفكر أو المنهجي عقلاً باحثاً فاحصاً ناقداً وهذه الروح النقدية مهمة جداً فأهم ما يميز العالم قدرته على أن يختبر الآراء السائدة ، سواء كانت على المستوى الشعبي العادي ، أو على المستوى العلمي ، ولا ينقاد وراء كل شيء قد ثبت أو انتشر أو شاع ، وهذا الفكر النقدي مهم جداً ينبغي أن ينتبه له الإنسان ، وننبه أيضاً إلى خطر يورّده بعض أعداء الأمة في هذه النقطة - كما أسلفت - عندما يقولون لنا ، ونقول نحن معهم موافقين لهم في أصل المسألة : " أن منهجية التفكير تقتضي البحث لا التسليم " ، يقودوننا إلى أن نبحث في مسلماتنا ، وأن نخضع حتى أمور العقائد إلى التفكير وإلى النظر . ومن هنا جاءتنا المذاهب المعاصرة التي تريد أن تبحث في القديم باسم الحداثة ، أو باسم غيرها فينبغي أن نفطن لهذا فنحن نقصد شيئاً إيجابياً لا هذه الأشكال والأنماط السلبية .
سابعاً : المنهج لا الأشخاص
وهذه قضية مهمّة في التفكير المنهجي ؛ لأن كثيراً من الناس يجعلون تفكيرهم مرتبطاً بمن عظم عنده من الأشخاص ، سواءً عظم في علمه أو عظم في فضله أو سابقته ، ولا يعني هذا المبدأ الذي نقوله : أن نقدح في الأشخاص أو ننقص من أقدارهم ، لكننا نقول : إن كان قدرهم عالياً ؛ فإن قدر المنهج والحق أعلى من أقدار الرجال . والرجال يعرفون بالحق وليس الحق يعرف بالرجال ، ولذلك قال الله - عز وجل - : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ولذلك أيضاً الله - عز وجل - ذكر في القرآن آيات في شأن النبي – صلى الله عليه وسلم - تبيّن لنا أن عظمة النبي - عليه الصلاة والسلام - وهي أعلى عظمة بشرية يرتبط بها المسلم ، لكنها لها أيضاً حدها الذي جعله الشرع لها ، بل قد جاءت الآيات القرآنية تبين لنا ما ينبغي أن نلفت أنظارنا إليه في هذا المبدأ فقال - جل وعلا - : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } قدمها الله - عز وجل - قبل وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم - لنتذكر بعد ذلك كلمة أبي بكر : " من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " . من الذي قال هذه الكلمة ؟ هو أقرب المقربين إلى النبي – صلى الله عليه وسلم - وأحب أحباءه ، وأخلص أصحابه - رضوان الله عليهم أجمعين - ، لكنه في الوقت نفسه هو ربيب النبي – صلى الله عليه وسلم - على الاعتقاد الصادق ، والارتباط الحق بالله - سبحانه وتعالى - .
وهذه الملامح التي ذكرت بعضاً منها أكتفي بها فيما يتعلق بسمات المنهجية في التفكير ، ولا بأس أن نضرب أو أن نذكر مثالاً للتطبيق العملي لهذه المنهجية في حياة الأمة الإسلامية ، والحقيقة أن منهجية التفكير الموضوعي في حياة الأمة الإسلامية ذات أمثلة كثيرة ، ولها علوم كثيرة ، لكن أكتفي بمثال أذكره ذكراً وهو علم الرجال في مصطلح الحديث أو عند المحدثين : هذا علم تتحقق فيه كل هذه المعالم المنهجية ، فيه تجرد .. فيه بعد عن الهوى .. فيه تحديد لا تعميم ؛ فإن النقد كان يختص بذكر الأمور الجارحة ولا يقبل الجرح إلا مفسراً إلى غير ذلك من القواعد والتطبيقات العملية الذهبية التي طبقها علماء الإسلام في هذه المنهجية .